يوناس تشيكا*
تر: حسين الحاج ومارينا أشرف
نُشِر هذا المقال في موقع “iai” ويمكن قراءة النص الأصلي بالضغط هنا
وصف فريدريش نيتشه الفن، في مقدمة كتابه اﻷول، بأنه «المهمة اﻷسمى والنشاط الميتافيزيقي اﻷصدق في هذه الحياة»[1]، وهو إدعاء حدد مسار مستقبله الفلسفي كله، وبلا شك كان طموح هذه الرؤية للفن غير مألوف في الفلسفة اﻷلمانية في زمنه، لكن كارل ماركس، المفكر الذي نادرًا ما يرتبط اسمه بفلسفة الجمال، شارك نيتشه طموحه، فقد وجد الفيلسوفان أن النشاط الجمالي [الاستطيقي] لا ينفصل عن الوجود اﻹنساني الحقيقي.
كانت الفلسفة اﻷلمانية بحلول نهاية القرن الثامن عشر تمر بثورة، فقد هدمت فلسفة كانط تقاليد الفلسفة «الدوجمائية» وقوضت العديد من الافتراضات التي حملها اللاهوت. وبينما كان العديد متفائلين بذلك باعتباره يقظة الفلسفة من «سباتها الدوجمائي»، خشي آخرون من أن انحطاط اللاهوت سينزع عن الحياة معناها ومبرراتها. وفي هذا السياق، شاع استخدام مصطلح «العدمية» للمرة اﻷولى عندما اتهم الفيلسوف فريدريش جاكوبي فلسفة كانط بأنها عدمية ﻷنها تزعزع اﻹيمان. أما اﻵخرون فكانوا متعاطفين مع كانط، لكنهم خشوا مما بدا أنه فجوة تستعصي على الجسر في قلب فكره: الفجوة بين الفلسفة النظرية (التي رأت البشر بوصفهم موضوعات طبيعية خاضعة لقوانين الفيزياء المسبقة) والفلسفة العملية (التي رأت البشر بوصفهم ذوات قادرة على الحرية والاختيار اﻷخلاقي). كيف يمكن لكلا جانبي الوجود المتعارضين ظاهريًا أن يتصالحا؟
على وقع المشكلات المذكورة، نهض طابور طويل من المفكرين اﻷلمان للبحث عن حلول لا في اللاهوت ولا في نظرية المعرفة ولا في العلوم الطبيعية، بل في فلسفة الجمال [الاستطيقا]. ويجب علينا رؤية كارل ماركس وفريدريش نيتشه، الفيلسوفان اﻷكثر تأثيرًا من ألمانيا في القرن التاسع عشر، داخل هذا السياق. لقد تميز فلاسفة الجمال من تلك الحقبة بطموح آرائهم حول الفن بالنظر إلى حجم المشكلات التي يواجهونها، ويسهل فهم سبب ذلك، فالفن مثل لهم ملء للفراغ الذي خلفه موت اﻹله.
أراد ماركس ونيتشه في البداية أن يصبحا فنانين قبل أن ينغمسا في عالم الفلسفة. كانت الموسيقى الشغف الرئيس عند نيتشه، وقد ألف مقطوعات موسيقية منذ سنوات مراهقته وحتى العقد اﻷخير قبل جنونه، بينما أراد ماركس أن يصبح شاعرًا رومانسيًا وقد كانت أولى كتاباته أشعارًا، وعندما كان طالبًا شابًا، كتب ثلاثة دواوين شعرية إلى زوجته جيني. ومع أن بصمتهما الخالدة كانت في مكان آخر، فإن اﻷثر الهائل للفن عليهما لم يخبُ، لا بوصفه هواية واهتمام في حياتهما الشخصية فحسب، بل باعتباره جانبًا من كتاباتهما الفلسفية أيضًا.
زعمَ نيتشه في مقولته الشهيرة أنه «فقط كظاهرة جمالية يمكن تبرير الوجود والعالم إلى الأبد»[2]، فلقد آمن بأن ما من شيء في ظل غياب اﻹله قادر على تبرير وجود عالم مليء بالمعاناة سوى الفن، وهذا ﻷنه يستطيع تحويل أعظم اﻵلام إلى أشياء جميلة، والجمال لا يحتاج إلى مبرر لوجوده. أما ماركس، فعادة ما يُرى في التصور العام باعتباره نقيض المفكر الجمالي، أي بوصفه شخصًا يختزل الفن في ظروفه الاقتصادية التي ينشأ في ظلها، أو بوصفه أداة نافعة للدعاية السياسية، لكن شتان بين هذا التصور وحقيقته، فقد ساء ماركس الطريقة التي تسبب الرأسمالية بها تخلف الحس الجمالي، حيث تشوه القيمة التبادلية جمال اﻷشياء، أو كما يقول «لا يرى تاجر المعادن سوى القيمة التجارية في معادنه ولا يرى جمالها وطبيعتها الخاصة [3]».
لقد رأى الفيلسوفان الحضارة اﻹغريقية بوصفها فترة مثالية في تاريخ الفن، وبرأي نيتشه فقد بلغ اليونانيين القدماء ذروتهم في الحقبة الهومرية، عندما بدأت اﻷحوال في التدهور مع ظهور سقراط، وانتشار نوعية اﻷشخاص الذين أطلق عليهم نيتشه «اﻹنسان السقراطي»، وهو نوع بلغ أشده في اﻷزمنة الحديثة. واﻹنسان السقراطي شخص يضع سعيه من أجل الحقيقة فوق كل شيء آخر، وينخرط في هذا السعي عبر عقل هادئ ومتجرد، مؤمنًا بأن الحقيقة تمثل علاجًا شاملاً نستطيع به قبول العالم أو تبرير وجوده أو إصلاح عيوبه. وبذلك، يحط اﻹنسان السقراطي من قدر الحس الجمالي الذي لا يمكن أن يفسره العقل كما يجب، ومن ثم يستهين بالطريقة الوحيدة التي يمكن بها تبرير الوجود، وهو الجمال الفني.
لم يٌنسَب إلى النشاط الجمالي [الاستطيقي] القُدرة على إثبات الحياة فحسب، بل رأى فيه العديد من المفكرين الألمان وسيلة يُمكن الاستعانة بها لاستعادة وحدة الجنس البشري ومعه وحدة الفلسفة. ومن المفيد هنا الانتقال إلى الرومانسي الألماني فريدريش شيلر الذي غالبًا ما يُعرف اليوم بكونه شاعِرًا وكاتِبًا مسرحيًا، اشتهر بكتابته لقَصِيدَة «أغنية الفرحة[4]» التي استخدمت في سيمفونية بيتهوفن التاسعة، بالإضافة إلى مسرحية «اللصوص[5]» وهي عبارة عن دِراما مَأسَاوية مُؤثِرة. لكنه كان معروفًا في عصره كفيلسوف وألَّف كتبًا عدة منها كتاب «التربية الجمالية للإنسان[6]» وهو أحد أكثر فَلسَفات الفن طموحًا في عصره. لم يتوقف عَمَل شيلر على تطوير المثاليَّة الألمانية بعد كانط فحسب، بل امتد تَأثِيره إلى ماركس ونيتشه.
عَزَا شيلر إلى الفن القدرة على توحيد مُتَنَاقِضات أَسّستها الفلسفة الكانطية، وتحقيق تَّوفِيق ما بين النظرية والممارسة، والحرية والضرورة، والعقل والحواس، والمادة والروح، والذات والموضوع. والسبب وراء ذلك أن المرء يتَبَنّى -في النشاط الجمالي- أفكارًا مُستمَدةً من الروح، ويجسّد هذه الأفكار في المادة حين يبْتَدَع العمل الفني. فعلى سبيل المثال يمثل قماش اللوحة المُستخدَم في الرسم أو كتلة الرخام المُستخدَمة في النحت أشياءً ماديةً غير فعّالة تُحدِدِها الضرورة (أي قوانين الطبيعة)، ومع ذلك تُعرب تلك الأشياء -من خلال الإنتاج الفني- عن أفكارٍ روحيةٍ فعّالةٍ تُحدِدِها الحرية الإنسانية. تتحقق الحياة الداخلية للجنس البشري تحققًا خارجيًا، ويمتلئ الموضوعي بالذاتي. هكذا يُوفق الفن بين ما يبدو مُتَنَاقِضًا، وبالتالي يستعيد الجنس البشري وحدته ثانيةً؛ فالفن عند شيلر مظهر[7] الحرية الإنسانية.
في أغْلَب الظَّنّ أن ماركس قد استلهم هذه الفلسفة تحديدًا حين كتب في «مخطوطات عام 1844 الاقتصادية والفلسفية»: «ومن هنا فإن الإنسان يشكل الأشياء كذلك وفقا لقوانين الجمال»[8]. وَضَحَ تأثير شيلر خصيصًا حين كتب ماركس: «تُنشأ ثروة الحساسية الإنسانية الذاتية أو تُحيا من خلال الثروة المُتجلية موضوعيًا للطبيعة الإنسانية وحدها، على سبيل المثال أذنًا موسيقيةً أو عينًا ترى جمال الشكل، باختصار الحواس القادرة على الإشباع الإنساني والإحساس بالكونية في الفردية التجريبية»[9]. وتظهر الآثار الواضحة للتأثير نفسه في نيتشه حين قال: «جرى المرء، وهو في هذه الحالة [يقصد بالحالة: الحرية الفنية]، تحويلا على الأشياء إلى أن تغدو مرآة لقوته؛ -إلى أن تصبح انعكاسات لكماله»[10]. بعبارة أخرى، يُمكن للبشر إثبات أنفسهم -من خلال النشاط الجمالي وحده- بإدراك وجودهم الداخلي في العالم الخارجي.
يظهر تشابه أخر ملحوظ بين المُفكِّرين، حيث أن كلاهما لم ينظُر للفن بالأساس من منظور المُتفرج كما كان شائعًا في ذلك الوقت، بل بالأحرى من منظور المُبِدِع. كتب نيتشه: «إن كانط، مثل الفلاسفة جميعًا، بدلًا من أن يواجه المشكل الجمالي انطلاقًا من تجارب الفنان (المبدع)، وهو قد تفكّر في الفن والجميل انطلاقا من “المتفّرج” وحده، وبذلك، دون أن يلحظ، هو قد زجّ بــ “المتفّرج ذاته في مفهوم “الجميل”»[11]. هذا هو السبب وراء اعتقاد نيتشه بعدم قدرة أغلب الفلاسفة على فهم التأثير الحقيقي للفن؛ فهم ليسوا مبدعين الجمال وبالتالي ليسوا على دراية بشغف إثبات الحياة الذي لا يأتي سوى في حالة إبداع جمالي نشط. من خلال هذا التغيير في التركيز، استطاع ماركس ونيتشه كشف الشروط الأساسية للإبداع الفني، وهي شروط نفسية عِنْدَ نيتشه وشروط اقتصادية عِنْدَ ماركس، مما جعلهما أقدر على التماس الشروط التي يُمكن للفن أن يزدهر في ظلها حقًا.
وينبغي مُلاحظة أن النشاط الجمالي، بالنسبة لماركس ونيتشه، ليس قاصرًا على الأعمال الفنية الحِرَفِيّة مثل تلك التي يمكنك وضعها في المعرض، بل له غاية عندهما تتمثل في التعامل مع الحياة ذاتها بطريقة جمالية [استطيقية]. كما وضعها نيتشه في كتابه «العلم المرح»: «هذا كل ما سيكون علينا أن نتعلمه من الفنانين، مع احتمال أن نكون أحكم منهم فيما يخص الباقي. لإنه هاته القوة الدقيقة تنتهي لديهم عادة حيث ينتهي الفن وتبدأ الحياة، غير إنه فيما يخصنا نحن، لنكن شعراء حياتنا»[12]. سيؤكد نيتشه أن بتأمل حياتنا باعتبارها قطعًا فنيةً، يمكننا أن نراها كليّات جميلة تخبرنا بقصة مُتسقة. على الجانب الأخر، سيؤكد ماركس إنه حتى حين ننتج موادًا للاستخدام العملي مثل الأثاث أو الملبس، يمكننا تصميمها وفقًا لــ «قوانين الجمال»، وبفعل ذلك نُعَبِر عن أنفسنا ونراها في الأشياء التي نبتدعها والتي نعيش بينها. والهدف في كلتا الحالتين جَعل الحياة جميلة من خلال نشاطنا الإبداعي.
تحتوي فلسفات ماركس ونيتشه بلا ريب على اِخِتلافات كبيرة، لكنها أيضًا تحتوي على تَشابُهات أساسية تميل إلى أن تكون غير ملِحوظة أو مُغفَلة في تلقيهما المألوف؛ فعِندَ اِكِتفائِنا بموضوع فلسفة الجمال وحده، يُمكننا أن نجد بالفعل قواسم مشتركة مذهلة بينهما، تشابهات يمكنها تشكيل أساسٍ لمشروع مشترك. يُعد كلا المُفكِّرين ناقدًا للحداثة، والسبب وراء هذا النقد إنها تُعطل تطوير إحساسنا بالجمال، وكلاهما يرى أن للتحرر جانبًا جماليًا غير قابل للإنقاص. داخل النشاط الإبداعي، نُدرك أفكارنا الداخلية في العالم الخارجي، وحين يُدِرَك الفن في الحياة، ستُثبَت الحياة في الفن.
*يوناس تشيكا: صانع محتوى فلسفي على موقع يوتيوب ومؤلف كتاب «كيف تتفلسف باستعمال المطرقة والمنجل؟» (2021).