دَيدالوس في قبضةِ كورونا: في تأبينِ رفعة الجادرجي، وڤيتوريو غريغوتّي
تاريخ التحديث: 24 نوفمبر 2021
مادة لـ:أنس الأسعد
مقدمة:
لِتكُن مقدّمةً تقليديةً، عن الإبداع والسّباحة عكس التّيّار، وتحقيق الذّات… الخ. ثُمّ لِنَقُم بتمثيلِ تلك المعاني ونُفتّش بمن تلتبس؟ من قادة وفنانين وأنبياء، يخضعُ الظّرفُ لإرادتهم، وهمُ القلّة القليلة. قد تُساعدُنا الميثولوجيا الإغريقيّة في قراءة ما سبق، وتبذلُ لنا أمثلةً سخيّة، خاصّة إذا ما تتبّعناها إلى الآخِر، إلى المآلات التراجيديّة، كي نجدَ أنّ أبطالها المشاهير وإنْ تَعالَوا وتأيقنوا، ففيهم ما فيهم من المثالب والهَنَات!
من أظرف تلك الأساطير، هي شخصيّة دَيدالوس، المُهندس العبقري والمِعمار الفذّ. إذ عُرِفَتْ عنه عِدّةُ حيلٍ لتطويعِ الظّرفِ وإعلان الإرادة المُنتصرة، والتّخلّص من الأزمات التي واجهتهُ في حياته. وَلَوَاْنّه كان متورّطاً بقتلِ ابن شقيقته –ألم نقُلْ فيهم ما فيهم من المثالب؟ ذلك الفتى الذي خَشي منه دَيدالوس وشعر بغيرةٍ إذْ كان تلميذاً أوشكَ أنْ يبُزّ معلّمَه. فرماهُ من شاهق وقبل أن يصل الأرض تدخّلت الآلهة وحوَّلت ذلك الفتى المغدور، واسمه بيردكس، إلى طائر الحَجَل الذي نعرفه جميعُنا، طائرٌ لا يطيرُ بالمعنى الحقيقي للكلمة كونهُ من فئة الدّجاجيّات وعليه احتفَظَ بهذا الاسم علميّاً
الاسم العلمي:Perdix
بالإنجليزية:Partridge
إذا لم يكُن هذا موضوعنا، وأسطورة دَيدالوس ذات تفرُّعاتٍ شتّى ولبّيسة، فأيّ شيء يهمُّنا منها بالضبط؟
الجوابُ هو علاقة دَيدالوس بمينوس ملك كريت الجبّار، الذي طلَب من دَيدالوس طريقةً للتّخلُّص من المينتور الكائن المَسْخ الذي هو نتاجٌ لعلاقة غير شرعيّة بين زوجة مينوس والثور/القربان، فما كان من دَيدالوس إلّا أن صمّمَ المتاهةَ “اللابيرنث” المعروفة باسم متاهة كريت، وسجنَ المينتور فيها. بيد أنّ شهر العسل بين دَيدالوس ومينوس سرعانَ ما انقطع، هل نستدعي “جزّاء سنمّار” من تراثنا لنقاطع ونستوعب ما جرى؟ فالمينتور سيموت على يد أحد عُشّاق ابنة مينوس الذي بطبيعة الحال وقفَ الموقفَ الأبويّ من عشق ابنته الممنوع. هنا يتدخّل ُ بطلُنا دَيدالوس لإسعاف الحبّ ولـ”يقولَ نعم بوجهِ من قالوا لا”. فيساعد العاشق بالتّخلص من المينتور. عند هذه المُساعدة التغشيشيّة ينقلبُ مينوس على مهندس المتاهة، ويرميه فيها بدلاً من المينتور النّأفق لتوّه.
كلُّ هذا السّرد، ولم نصل بعد إلى الحِيلة الديدالوسية، والتي هي موضع الشاهد الذي نتوخّأه في هذا المقال والمَدخل لما نُريد قوله. فالحيلة كانت بـ”صناعة الأجنحة” والتّحليق فوق المتاهة والهربِ منها. قد تبدو هذه الفكرة بدَهيّة في حاضرنا، لكنّنا نتكلّم عن زمنٍ كان الطيرانُ فيه حُلماً صعب المنال. بالتّأكيد تكلّلت جهود دَيدالوس بالنّجاح وهربَ من متاهته في كريت التي صمّمها بيديه، وهبطَ في صيقليّة بسلام. في حين مات ابنُه إيكاروس الذي قاسَمَهُ سجنَهُ، نتيجة عدم التزام الابن بنصيحة الأب، إذ حلّق ضارباً بجناحيه مُقترباً من الشّمس، فذابَ شمع جناحيه، وسقطَ صريعاً، ليموتَ الشّابُ مرّة أُخرى، وينجو الكَهل! هُنا تكمنُ خطورةُ دَيدالوس الذي هو تَمثيلٌ رمزيٌّ لدخول الخشب وخفّته إلى الصّناعة والمعمار في تاريخ اليونان.
خاتمة أُوْلى:
في عصرنا الرّاهن تحوّلت هذه الأسطورة إلى ضربٍ من ضُروب امتحان المِعمار لذاته ولرسالته ولالتزامه، وأسئلته التي يختبرُ فيها نَفسهُ. طَبعاً نتكلّمُ عمّن يجدُ الأهليّة في نفسه من خلال امتحان الذّات ومساءلتِها، ولا نتحدّث عن معماريين تكنوقراطيين محضُ مقاوِلين الذي ما إنْ يوقّع أحدهم كتلةً إسمنتيّة حتى يصبحَ عبداً لأصنام تبولُ برؤوسها ثُعلبانات رأس المال التّافه ولا تُحرّك ساكناً.
أمّا في ثقافتنا العربيّة المُعاصرة، يبرزُ إسمُ المعمار العراقي رفعة الجادرجي (1926، 2020) كأحدِ تجسيدات رمزيّة دَيدالوس مُفكّرٌ عَصيٌّ على الضّياع في متاهات التّعذيب والتّغريب، حتّى مع سُجون صدّام حُسين سيّئة السُّمعة والصّيت. على الجّهة الثّأنية، وفي الثّقافة الأوربيّة المعاصرة، عندنا الإيطالي ڤيتوريو غريغوتّي (1927، 2020)، أحدُ أهم معماريّيها في القرن العشرين، وأبرزُ مُصمّمي المتاحف وملاعب الكُرة.
كلا الشّيخين التسعينيّين سقطا للأسَفِ، بالرّغم من تجاوُزهما لكثير من المتاهات في حياتِهما، بِقبْضةِ المتاهةِ الأعتى في يومنا هذا، ألا وهي كورونا.
عالمُ ما بعد الحرب العالميّة الثاّنية:
لكَ أن تتصوّرَ منظرَ العالمِ بعد الحرب العالميّة الثّانية، معنى أن تعيشَ شبابَكَ بكلّ ما فيه الكلمة من حَماس ورؤيةٍ لبناء من جديد. على أطراف القارات كما بقلبها كانت دعواتُ البعثِ والإحياء والتّجديد والخلاص من كُلّ ما هو أسودٍ وفاشي ترتفعُ وترتفع. طبعاً زيف هذه الدّعوات من صحّتها أمرٌ واردٌ برأينا، وخاضعٌ للتّقييم، إنّما نتكلّم عن أي فهم وشعار بدأ يستهوي النّاس حينها، ويروجُ بينها.
أمّا السّباق على تمثيلِ تلكَ الدّعوات في الأدبِ، والفنّ والعمارة، والحقوق، كانَ على أشدّه. وبالتّالي فإنّ هذين الشّابين الجادرجي وغريغوتي، المندفعين بكلِّ عقلانيّةٍ وحداثة وكلّ واحدٍ منهما ومن موقِع جامعته الخاص، سوف يكون ممثّلاً لكلّ تلك القيم، قيم ما بعد الحرب العالمية الثّانية. الكلامُ طبعاً عن موازاةٍ فكريّة بين الاثنين، عن مُحاولة منّي لقراءة العالم من خلال المسيرة، في حقيقة الأمر لا أعرف إن كان قد صحّ والتقى الاثنان معاً. فالجادرجي في مطلع الخمسينات كان يقضي سني دراسته للهندسة المعماريّة في جامعة هامبرسميث البريطانية. في حين تخرّج غريغوتّي من بوليتكنكو دي ميلانو.
لكنّ الاسمين يعودان للالتقاء عند نقطةٍ أكثر أريحيّةٍ، تبدو مُشتركةً بينهما. فالجادرجي الذي وُلدَ في بغداد، وهو من عائلة مُثقّفة وميسورة الحال جدّاً، وذات إرث في الاشتغال السياسي والحزبي. بالتّالي النّفاذ إلى وسط فنّي مرموق اجتماعيّاً ومؤثّر لا يُمكنُ إحالتُه لمجرّد “ذات مُبدعة” ومُصرّة على الطّموح. بقدر ما تكونُ هذه الذّات تستندُ على ركيزةٍ اقتصاديّة متينة. لا بل إنّ هذه الركيزة بدت واضحة في المدن العربية في النّصف الأوّل من القرن العشرين، على إثر تحوّل الإرث الإقطاعي في القرن التاسع عشر وماقبله، لعدد كبير من العائلات، إلى نَشاط برجوازي في القرن العشرين. عبر الانتقال بين الأجيال ضمن العائلة الواحدة. وفي هذا السّياق لا ننسى كتاب الجادرجي عن بيت جدّه عارف آغا.
المدرسة والإرث الوطني:
إذا كان الجادرجي ينتمي إلى جِيلٍ مدرسيٍّ عراقي تخرّجَ من جامعات بريطانيّة، فغريغوتّي كانَ مسنوداً بتراثٍ هائل، حسبُه من ذلك أنّه وُلِدَ في بلد مايكل أنجلو ودافنشي. بلدٌ مُتجذّرٌ فيه أثر العمارة، إنْ لم نَقُل إنّ الحضارة الرّومانية بالإضافة إلى عصر النّهضة الأوربية الذي انطلق من إيطاليا، هي حضارة مِعمارٍ وعُمران. وهذا يُشكّل نقطة اختلاف بين الاسمين، من حيث:على ماذا استندَ كلٌّ منهما من تراثٍ وطني؟ خاصّة أنّ المقارنة بين العراق في النّصف الأول من القرن العشرين كبلدٍ مُفقر وتحت سلطة إستعمارية، وبين إيطاليا كبلدٍ فيه ما فيه من المُشكلات لكن ليست بذات الحِدّة والاستغراق.
مع ذلك وجد غريغوتي لنفسه الدّافع بالارتكاز على العامل العائلي الميسور، الذي مكّنه من اختراق التّقسيم الإيطالي الطّبقي والجهوي الحادّ بين الشّمال والجنوب. فابنُ مدينة باليرمو الصّقلّيّة الجنوبية تخرّج من ميلانو الصّناعية الشّمالية، أيضاً لا لأنّه ذاتٌ طَمُوحة وحسب. لأنّه لو كان مردّ الأمر إلى ذلك العامل فقط، لجازَ أن نتكلّمَ عن طموحات الصقليين من أبناء ضيعته آل كوروليوني الطموحين والفنّانين إنّما على طريقتهم المافيوية الخاصّة!
خاتمة| دَيدالوس في متاهته:
مع إنهاء الجادرجي لدراستِه في بريطانيا، عادَ إلى العراق وبدأ مرحلة التّشييد والإنجاز على المستوى الوطني، وأكثر ما ارتبط اسمُه بنُصْبِ الحرّية، وَلَوَاْنّه في حقيقة الأمر للنّحات جواد سليم إنما بإشراف الجادرجي. أمّا نُصب الجندي المجهول فتمّت إزالتُه لاحقاً في عهد صدّام حُسين، هذا الأخير الذي اعتقَلَ الجادرجي لمُدّة تُقارب العشرينَ شهراً في سجن أبو غريب. لم يخرج بعدها الجادرجي ليُوقّعَ مع زوجته بلقيس شرارة كتابه “جِدار بين ظُلمتين” فقط، إنّما ليخرجَ من العراق كُلّه عام 1983. هذا الملمح الاعتقالي في سيرة الجادرجي يبدو غائباً عن الخلفيّة الحياتيّة لغريغوتّي، بل إنّه من نافل القول إنّ إيطاليا بل أوربّا بأسرها احتضنت أعمال فنّانها من تياترو ميلانو إلى ملعب برشلونة الأولمبي. إنّما فكرة التّخلّص من إرث فاشيٍّ حاولَ ترسيخ نفسه في إيطاليا على يد موسوليني كانت إحدى هواجس الفّنان الإيطالي.
العلم العراقي بتصميم رفعة الجادرجي
قراءاتٌ ليبرالية كثيرة، منها مادّة سابقة أفردتُها للجادرجي قبل أعوام بعنوان صورة الفنان في شبابه، قد لا تروق لقُرّاء كُثُر، إنّما تلك الليبرالية تجدُ منبعَها الأوّل بسلوكيّات أصحاب العلاقة المثيرة للجدل، إيجاباً أو سلباً. خاصّة عند الجادرجي، كتصميمه الإشكالي لعلم العراق ما بعد الاحتلال، العلم الذي انتهى به الأمر محروقاً في إحدى الساحات، لمُشابهته من حيث الألوان مع علم الكيان الصّهيوني، أو في موقفه اللاإنجابي الصّارم، أو بوصيّته بحرقِ جُثّتِه بعد وفاته.