ورا تابيلي: العرق ليس شيئًا بل علاقة
لعلّ العنوان أعلاه بحاجةٍ إلى توضيح لِمَن لم ينكبّ مؤخرًا، وبحماسةٍ مشبوبة، على “مقدمةِ” كتاب [إدوارد بالمر تومبسون –م] خلق الطبقة العاملة الإنكليزية، فالعنوان ليس مجردَ تحيةٍ لواحدٍ من أكثرِ الممارسين تأثيرًا في التاريخ الاجتماعي، بل إنَّه يستحضرُ الصلاحية المستمرة لطريقته[1] وصحتها. لا بد أنْ نأخذ في الاعتبار، بعد تقويمنا لمنجزات ما كان يومًا التاريخ الاجتماعي “الجديد” في ضوء التحديات والدروس النابعة من “التحولات” الثقافية واللغوية، ما قد نخسره حالَ أسقطنا دروسَ التحليلِ الطبقي من أبحاثِنا حولَ السيروراتِ العرقية.
يشتمل مصطلح “السيرورات العرقية” بحد ذاته على مجموعةٍ من التواريخ المتمايزة ولكن المتداخلة، بما في ذلك تاريخ التكوين العرقي والعنصرية العرقية[2] والصراع العرقي والتواريخ المتعددة للأشخاص المتباينين والمجموعات المُعَرْقَنة[3] والموصومة بوصمةٍ ما في سياق التاريخ الإنساني[4]؛ شرع المؤرخون للتو في الكشف عن ترابطاتها المتشابكة. ولَمِنَ المفارقة، اليوم، الذهاب للدفاع عن الدور البارز للتحليل الطبقي في هذا المضمار، فبالنسبة لكثيرين كان الهدف في يوم من الأيام عكس ذلك. إذْ ناضلنا في الماضي بدايةً لتطبيق الأدوات القديرة والمُقنعة للتحليل الطبقي لتأريخ العرق والجندر، ومن ثمّ إقناع الباحثين الآخرين بأنَّ التحليلات الطبقية المُغفِلة للتكوين العرقي والجندري تظل فقيرةً وقاصرة. إنَّ هذه النضالات لدمج تحليلات العرق والجندر وغيرها من الديناميات الاجتماعية بالسرديات التاريخية والنظرية للتكوين الطبقي ما تزال تُعَمِّق من فهمنا بأنَّ كل التكوينات الاجتماعية قد تذرَّرت على محاور القوة وتوجيهات منابعها. فلم يعد بوسعنا بعد الآن افتراض أنَّ المجموعات الاجتماعية والطبقات والأعراق والأمم والأختيّات “sisterhoods” ستكون متجانسة ومتفقة: بل صرنا نبحث بدلًا من ذلك عن أدلةٍ على القوة والمقاومة والترهيب والاتفاق. إذْ نبحث، بوصفنا مؤرخين، عن الأدلة.
تظل طرائق التحليل الطبقي شديدة الأهمية لفهم وتفسير السيرورات العرقية. إذْ يظل كشف المؤرخين الاجتماعيين واستكشافهم لمشروطية وعلائقية وسياقية السيرورات التاريخية عملًا فريدًا ولا غنى عنه في فهمنا للعرق والجندر والجنسانية والإمبريالية، من بين التكوينات التاريخية المتعددة التي قدَّمها “التحول الثقافي” برؤيةٍ جديدة. لا حاجة لنا للخوض في النقطة الشائعة بأنَّ المجموعات المُعَرْقَنة ليست، ولم تكن يومًا، متجانسة، بل كانت مقسَّمة وفق الطبقة وكذا غير ذلك من الاختلافات. لقد تعمَّق وتوسَّع التحدي الذي طرحه بدايةً وبإلحاح التحليل الطبقي في وجه التفسيرات الوظيفية والتوافقية. ونحن ندرك اليوم أنَّ الجماعات، كالمجموعات المُعَرْقَنة والمجموعات الثقافية والأمم والمجتمعات، لم تكن متفقة أو بلونٍ واحد أو على قلبٍ واحد بل كانت منقسمة، أحيانًا بشكلٍ حاد، ليس فقط على أساس الطبقة، بل أيضًا العمر والجندر والثقافة والمهارة والتوجه الجنسي وهلمجرا. فبتنا نسأل اليوم، أمةَ مَن؟ ثقافة مَن؟ مجتمع مَن؟ ونسأل أيضًا تاريخَ مَن؟ إذْ لم يكن الأشخاص المُعَرْقَنون “الآخر” الوحيد، وليس الأبرز بالضرورة، في هذه المجتمعات المُتراكِبة.
يُعَد تطبيق هذه الأداة الأساسية للتحليل الطبقي على السيرورات العرقية بديهيًا وروتينيًا واعتياديًا يجعل من تغافل الباحثين عنه غالب الأحيان مدعاةً للعجب. ومثلما تظل فائدة التحليل اللغوي للجمل الإنكليزية[5] غامضةً بالنسبة للمرء إلى أنْ يتعلم لغةً أجنبية، كذلك لا تتضح فائدة التحليل الطبقي، بتصنيفه الدقيق للجماعات التاريخية، بشكلٍ جلي إلا حين يغيب عن الأعمال الزاعمة أنَّها تفسِّر الجندر والعرق والإمبراطورية. تنحو الاستقصاءات البحثية عن “الثقافة الإمبراطورية” أو الهويات “القومية” الأوروبية منحىً خطرًا بإعادتها فرض وحدةٍ وتجانسٍ مغلوطَيْن على سكانٍ متباينين. ويسترعي عدم التجانس الطبقي والعرقي والجندري وخلافه انتباهًا لكيف أنَّ الطبقات المُهيمِنة تتحدَّث نيابةً عن كيانٍ سياسي متنوع وتُخرِسُه في الآن نفسه. بعبارةٍ أخرى، إنَّ اتهام سكان المدن الكبرى “المتروبوليتان” بأنَّهم جميعًا عنصريون وإمبرياليون، وضمنيًا أنَّ ساكنها أبيض، قد يقبل عن غير قصد إقصاءَ أشخاصٍ مُعَرْقَنين ومُستعمَرين من هذه المجتمعات بل ويشارك في ذلك ويعيد إنتاجه. كما أنَّه يتجاهل ضمنيًا أدلة نضالهم المستمر بغية الموارد الاجتماعية والسلطة السياسية على مدى التاريخ الحديث. بيت القصيد هنا أنَّ مَن يتساءل عمَّا إذا تبقى عند التحليل الطبقي أي شيءٍ لزيادة فهمنا عن العرق وغيره من السيرورات التاريخية ليس عليه سوى قضاء عصريةٍ في إحدى المكتبات.
بيد أنَّ التطبيق الأكثر إثارة وفائدة للتحليلات الطبقية على السيرورات العرقية، وكذا جميع السيرورات التاربخية، يتمثل بإدراك وتوضيح طبيعتها المشروطة والمتقلِّبة والعلائقية. تدين هذه الرؤية الديناميكية إزاء التكوينات الاجتماعية للتفاسير التومبسونية والغرامشية وغيرها من التفاسير الماركسية. إنَّ فهم التكوين العرقي بوصفه سيرورةً تاريخية، خلافًا لفهمه كـ”تصنيفٍ” جامد طبيعي، أي بوصفه “ليس شيئًا بل علاقة”، يمكِّننا من انتشال الاختلاف العرقي والعنصرية وتاريخ الأشخاص المُعَرْقَنين من هوامش وغيتوهات البحث التاريخي، واضعين إياهم عند ملتقى السيرورات الاجتماعية المتعددة التي شكَّلت تاريخنا. إنَّ الأدلة على تَغيّر وتباين تركيبة المجموعات المُعَرْقَنة، وتعريفات الاختلاف العرقي في سياق التاريخ الحديث، تدلّل على وجوب فهم “العرق” على أنَّه متحوِّل على الأقل، ومشروط، وخاضعٌ لنفس السياقات التاريخية التي أعادت إنتاج وتكوين الطبقة والجندر وغيرها من التكوينات التاريخية[6]. ويأتي دليلٌ على الترابط الوثيق بين التكوين العرقي وباقي السيرورات التاريخية من المُشاهدة المتكررة لتصاحب “العنصرية الجديدة” لأواخر القرن التاسع عشر مع صعود معاداة السامية، وكذا مذابحها، وقضية دريفوس، وازدياد التراتبية الطبقية في أوروبا[7]. بعد هذا، كيف لنا أنْ نفهم العلاقة بين العرق وغيره من السيرورات التاريخية؟
لحسن الحظ فإنَّ دروس التكوين الطبقي ليست صعبة التطبيق. كقاعدةٍ عامة، فلا بد لافتراضات ثبات الحدود العرقية وحتمية الصراع العرقي وطبيعانية التصنيفات العرقية أنْ تثير أوتوماتيكيًا سؤالًا مفاده: “أيمكن السكوت عن هذه الصيغة التبسيطية حال تطبيقها على الجندر أو الطبقة؟” يمكن لتطبيق هذه الاختبارات ودروس التحليل الطبقي على السيرورات العرقية أنْ تعزّز قدرتنا على تأريخ العرق، وفهم تكوينه بوصفه تكوينًا متواصلًا ومتغيرًا أبدًا، وبالتالي سيرورةً قابلة للتحليل التاريخي.
لذا، ما هي الدروس التي تقدمها التحليلات الطبقية لجعلنا نفهم السيرورات العرقية بشكلٍ أفضل؟ لعل أولها وأشملها تشديدها على الصلة الديالكتيكية المتذبذبة بين البنية والفاعلية، بين الممارسة المادية والوعي. لأكرر ما تعلمناه من أساطين تنظير الإرث الماركسي، فالطبقة “سيرورةٌ فاعلة، تدين للفاعلية بقدر ما تدين للتكييف”[8]. لدى هذه النظرة الكثير للدفع بتحليلات الاختلافات العرقية والعنصرية قُدُمًا: فإعادة مَفهَمة العرق على أنَّه “سيرورة فاعلة”، على أنَّه تكوين عرقي، سيوَفِّقُ بين البحث التاريخي والرفض القديم للعلماء بوجود أسس موضوعية للاختلافات العرقية. مع ذلك ففي الكثير من الأبحاث، عُولِجَت الهويات العرقية بوضفها صفات موضوعية، سمات فطرية، ماهيات ثابتة لا جدال فيها، نستطيع عبرها توقّع أو استقراء كيف سيتصرف الناس أو كيف يجب أنْ يتصرفوا دون اللجوء إلى دليلٍ إلّا عرضيًا. تذكِّرنا الإحالة إلى التحليل الطبقي بمرونة ومشروطية وتقلب وسيرورية التفرقات الاجتماعية، بما فيها التفرقات العرقية، ما يجعل منها صنيعة سياقات تاريخية محددة. ومثلما تُحدَّد “الطبقة بأشخاص يعيشون تاريخهم، وهذا في نهاية الأمر تحديدها الوحيد”[9]، كذلك تُبيّن لنا الأدلة أنَّ الأفراد قد أعادوا إنتاج التصنيفات العرقية والتفاوض بشأنها بطريقةٍ ظرفية ساعين وراء أهدافٍ مُعلنة ومُضمرة، كما أنَّها تغيَّرت لمواجهة حوادث التاريخ. لذا فتحفظاتي تدور حول انتزاع بنيةٍ “بيضاءَ” متشيئة من السياق التاريخي لما قبل الحرب الأهلية في الولايات المتحدة بغية استخدامها لتفسير العلاقات والممارسات العرقية لسياقاتٍ تاريخية مختلفة بالكامل، بما فيها السياق البريطاني، الفارط والمعاصر[10]. بالنسبة لي، شخصيًا، لم أصادف في أي مصدرٍ تاريخي عن بريطانيا القرن التاسع عشر أو بدايات القرن العشرين فاعلًا تاريخيًا يستخدم المصطلح “أبيض” لوصف هويتهـ/ـا.
أما ثاني الدروس فيخبرنا أنَّ في التشديد على الفاعلية عند أفضل التحليلات الطبقية إشارة أولًا إلى كون العنصرية جانبًا عامًا في “طبيعة الإنسان” وليست شيئًا يؤسَف له، ومَن شَكَّلها وأعاد إنتاجها هم الفاعلون التاريخيون، وهؤلاء يمكن تحميلهم المسؤولية بل لا بد من تحميلهم إياها. تقتضي الفاعلية أيضًا ضرورة تحديد وتعيين الفاعلين التاريخيين وتقويم أثرهم على النتائج. أما ثالثها فيقول أنَّ الاعتقاد بكون الفاعلين التاريخيين “صنعوا أنفسهم بأنفسهم” قادنا إلى التفتيش عن دليل يخبرنا كيف مارس السود وغيرهم من الأشخاص المُعَرْقَنين “الفاعلية والإبداع”[11] في صياغة حدود مشاركتهم في المجتمعات الفارطة، وإنْ خرجت النتائج عن سيطرتهم أو سيطرة غيرهم. يعادِل التشديد على فاعلية السود الاهتمامَ اللازم بالعنصرية والعنصريين، فالعنصرية وحدها تُظهِر الملونين في الغالب الأعم مجرد “ضحايا”، وموضوعاتٍ إما للعنصرية الشعبوية أو الإجراءات المؤسسية كالرِق أو ترهيب وعسف الدولة.
أما رابعها، فيفيد بلزوم تصحيح هذا الإحتفاء الإرادوي بفاعلية السود من خلال الاستقصاء البحثي الدقيق للسيرورات الشائعة للإخضاع العرقي؛ صاغَ محللو التكوين الطبقي بهذا الصدد توفيقًا بين البنية والفاعلية بشكلٍ بليغ وأصيل. لقد تعلمنا من المؤرخين الاجتماعيين كيف أنَّ أشكال العنف اليومية كالإمبريالية والعنصرية المُمَأسَسة –والتي شكَّلتها المؤسسات النافذة كالشرطة وأرباب العمل والدولة– قد ساهمت بكل وضوح في تفجر صراعات عرقية صريحة ومنها مثلًا المذابح المعادية للسامية في القرن الرابع عشر وأعمال الشغب في بريطانيا إبان 1919[12].
خامسها، يمكن لإدراك أنَّ هذه السلطة المهيمنة بدورها ليست في مأمن أنْ يُفيد في التوفيق التحليلي بين بُنى السلطة العنصرية والفاعلية الإنسانية[13]. وبفهمنا العنصرية والتكوين العرقي على أنّهما نتاج ميكانيزمات مميزة للقسر والترهيب المهيمن، يتبقى علينا حصر الأدلة القائلة بأنَّ الإخضاع العرقي يظل منقوصًا ومتقلقلًا ومحل نزاع مستمر. تحضر إلى الذهن مجموعة من الأمثلة، لكن أفضلها هو الزواج بين الأعراق، والذي دأب على تحدي الهيمنة العنصرية من جانبي الحدود العرقية. يرفض هذا التحدي الافتراضات القائلة بوجود تعارضٍ جوهري بين أفراد المجموعات العرقية والثقافية المختلفة؛ أو وجهة النظر القائلة بأنَّ العداوة العرقية كانت وما تزال تعبيرًا غريزيًا عن خبث وهشاشة الطبيعة البشرية؛ أو أنَّ الضغوط المهيمنة للتوافق مع الاستقطاب العرقي لا يمكن مقاومتها، وبالتالي يمكن تبريرها. يمكن لهذا التحدي، بكلمات النبي [تومبسون –م]، “تجديد إحساسنا بطبيعة حدود الممكن لدينا”[14].
سادسها، يوضح هذا التحدي توفيقَ التحليلات الطبقية البديع ولكن المتشابك بين السيرورات المادية والوعي في إطار وحدةٍ ديالكتيكية بين الممارسة المادية والخطابية: قيل لنا أنَّ الطبقة تأخذ مجراها في كلٍ من “التجربة المادية الخام والوعي”. والعرق، كالطبقة، يمكن القول أنَّه “ليس بنيةً ولا تصنيفًا، بل ما يأخذ مجراه في العلاقات الإنسانية…إنَّه سهلٌ ممتنع، يتفلَّت من التحليل إذا ما أردنا القبض عليه…يتجلى في أناسٍ حقيقيين وسياقٍ واقعي”[15]. يمكن لهذا التشديد على مادية الممارسة الثقافية والتاريخية أنْ يفيد أيما فائدة في فهم التكوين العرقي. بالنظر إلى أنَّ البيولوجيين والأنثروبولوجيين قد قنطوا لبعض الوقت من تعريف العرق والاختلافات العرقية، اتضّح أنْ لا مفر من كون التمييز العرقي في حد ذاته صنيعة سياقاتٍ تاريخية. يترتب على ذلك أنَّ التمييز المزعوم بين الاختلافات العرقية والثقافية لا يتمتع بأي أساسٍ حقيقي ولا حتى إمبريقي، أي أنَّه “بلا وجود حقيقي”: إذْ تظل صنيعةً اجتماعية، وفي التشعبات التاريخية لتكوينها يكمن أصل العَرْقَنة وعلاجاتها.
سابعها، بالرغم من دحض التفسيرات البيولوجية للاختلافات العرقية، إلا أنَّ الأفكار التشيؤية للاختلافات الثقافية، ما دعاه أحد الباحثين بـ”الحتمية الثقافية والتماثل الثقافي”[16]، معرضةً لأن تغدو ماهويةً جديدة، مفسرةً التكوين العرقي والاختلافات العرقية والصراع العرقي كنتاج لاستجابات متأصلة لاواعية لا يمكن محوها ولا إرادية بطبيعة الحال[17]. لكن إذا عُدنا مجددًا إلى الدروس المستخلصة من التحليل الطبقي لن نرتكب مثل هذا الخطأ. فدروس تكوين الطبقة العاملة تُبيّن أنَّ الثقافة بحد ذاتها كانت سيرورةً تاريخية، صاغها الناس، وعليه فهي قابلة للتحليل والتعديل[18].
وحيث أنَّ التحليلات الطبقية الأكثر إقناعًا تتقصى تكوين الطبقة وإعادة إنتاجها عبر السيرورات الثقافية، يبدو أنَّه لفهم البناء الثقافي للاختلافات العرقية يتعين علينا النظر إلى ذات السيرورات التاريخية التي صاغت الطبقة، بل وكذلك الجندر والجنسانية وغير ذلك من التكوينات الاجتماعية[19].
أخيرًا، تنطبق هذه التحذيرات أيضًا على الخلط الشائع بين العرق والإمبراطورية، فلا يمكن إنكار ترابط السيرورات التاريخية بيد أنَّها بحاجة إلى تصنيفٍ تحليلي. فغالبًا ينطوي ما نعتبره تحليلًا ثقافيًا للإمبراطورية على تشيؤٍ تبسيطي وتشييئٍ وتعميمٍ لآثارٍ مفصولةً عن سياقها، من النصوص إلى الأواني الفخارية، آثارًا يجب النظر إليها على أنَّها نتاج سيروراتٍ تاريخية لا تنفصم عن بقية التاريخ[20]. تذكرت، حين أعدت قراءة إدوارد سعيد مؤخرًا، تحديده الدقيق للإمبريالية بأنَّها مجموعة ممارساتٍ تُدرَس على أفضل وجه وهي تفعل فعلها في سياقات تاريخية ملموسة كما في الجزائر أو الهند البريطانية[21]. وبالتالي، ضرورة استرداد السيرورات الثقافية وآثار الإمبراطورية من “الحقل الضيق لـ«المعاني والمواقف والقيَّم»”، ووضعها بدلًا من ذلك ضمن الممارسات الاجتماعية والعرقية التي شكلَّتها وساعدت هي الأخرى، بدورها، على تشكيل هذه الممارسات. مرةً أخرى، ينطوي هذا على استقصاء السيرورات الملموسة.
سأختم بالتحذير من تعميم العداوة العرقية، تحذيرٌ أستقيه من دروس التحليل الطبقي: فوضع الاختلافات العرقية خارج السيرورات التاريخية –باعتبارها تفسيرًا للأفعال البشرية عوضًا عن اعتبارها شيئًا يحتاج إلى تفسير، أو باعتبارها نوعًا من ظاهرة عارضة أو ماهيةٍ، أو بوضعها في حقل “المواقف” “attitudes” والتأسلات الرجعية[22]، هذا الحقل المجرد والخاوي– يفضي إلى التنازل عن مسؤولية المؤرخ في التفسير عبر تحليل الأدلة التاريخية، واليأس من إيجاد علاجات للعنصرية والصراع والإخضاع العرقيَيْن. يمكن لهذه المداخل للسيرورات العرقية، وبالتبعية، الجندر، الاستفادة من التبصرات العديدة عند التحليل الطبقي. وإذا قيّض لنا التعلم من التحليل الطبقي عندئذٍ علينا تدريب أنفسنا على تطبيق دروس السيرورة والقوة والفاعلية الفردية، ولكن ليس بطريقةٍ مجردة تجعل من العرق والاستعمار والإمبريالية “سياقًا ثقافيًا” معزولًا مبهمًا، وكأنَّه تزيين لخلفية السرد التاريخي، بل بتتبع كيف وأين ومتى وبيد مَن جرى إعادة إنتاج السيرورات العرقية والإمبريالية عبر الممارسات التاريخية القابلة للتوثيق والتحليل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1]– بالطبع فالعنوان هنا إعادة صياغةٍ لتنويه تومبسون بأنَّ “الطبقة ليست شيئًا بل علاقة” من كتابه خلق الطبقة العاملة الإنكليزية*. أُريدُ شكرَ زميلي ديفيد أورتيث “David Ortiz” لتعليقاته ومقترحاته على هذه الورقة. * E.P. Thompson. The Making of the English Working Class, (New York, 1966: 11). [2]– ترد لاحقًا بصيغة “عنصرية” وحسب. (م) [3]– أي مُضفىً عليها الطابع العرقي. (م) [4]– أستخدم مصطلح “مُعَرْقَن” مؤقتًا للتشديد على التمييز بين الاختلافات الجسدية والثقافية غير المؤذية وبين علاقات القوة التي تُحوّل البعض منها إلى إعاقاتٍ سياسية واجتماعية واقتصادية ولكن مؤقتًا فحسب إذْ أنَّ العرق بحد ذاته، في الحقيقة، هو البنية الاجتماعية. [5]– المقصود أنَّ فائدة تحليل الجملة إلى عناصرها (فعل واسم وزمن الفعل…إلخ) غير ملحوظة حين تمارس هذا التحليل في إطار لغتك، إذْ تُمارسه بحكم أنَّها لغتك الأم، لكن مع اللغة الأجنبية تتضح هذه الفائدة بشكل صارخ، سيتعين عليك معرفة الفاعل والفعل وزمنه وما إلى ذلك، بغية إجادة هذه اللغة. (م) [6]– باربرا جان فيلدز، العبودية والعرق والأيديولوجيا في الولايات المتحدة**، نيو ليفت ريفيو العدد 181 (مايو/يونيو 1990). ستيوارت هال، هويات قديمة وجديدة، إثنيات قديمة وجديدة***، في أنتوني كينغ (محررًا) الثقافة والعولمة والنظام العالمي: الشروط المعاصرة لتمثيل الهوية (لندن، 1991)، وبخاصة الصفحات: 57، 59، 62، 68. **Barbara Jeanne Fields, Slavery, Race and Ideology in the United States of America, New Left Review 181 (May/June 1990): 95-118. ***Stuart Hall, Old and New Identities, Old and New Ethnicities, in Anthony King, ed., Culture, Globalization and The World-System: Contemporary Conditions for the Representation of Identity (London, 1991). [7]– ليو شبيتزر، حيوات في الوسط: التماهي والهامشية في النمسا والبرازيل وغرب أفريقيا 1780-1945^ (كامبريدج، 1989). دوغلاس لوريمِر، اللون والطبقة والفيكتوريين: العقلية الإنكليزية تجاه الزنوج في أواسط القرن التاسع عشر^^ (ليسِستر، 1978). ^ Leo Spitzer, Lives ln Between: Assimilation and Marginality in Austria, Brazil, and West Africa, 1780-1945 (Cambridge, 1989). ^^ Dougias Lorimer, Color, Class, and the Victorians: English Attitudes to the Negro in the Mid-Nineteenth Century (Leicester, 1978). [8]– أستعير هنا من تومبسون، خلق…، مرجع سبق ذكره، ص9، وعلى الأخص “مقدمة: العرف والثقافة” من كتابه الأعراف المشتركة: دراسات في الثقافة الشعبية التقليدية* (نيويورك، 1991: 1-15)؛ ومن عمل ماركس وإنجلز المبكرة، بالأخص الأيديولوجيا الألمانية؛ ومن أعمال غرامشي وشرّاحه، بما فيهم ت.جاكسون ليرز “T. Jackson Lears” مفهوم الهيمنة الثقافية: إشكالات وإمكانيات** المنشور في دورية American Historical Review (المجلد 90، العدد 3) ص 567-593؛ ودراسة ميشيل أومي وهوارد وينانت “Michael Omi and Howard Winant” على ضفاف بابل: العرق في الولايات المتحدة*** المنشورة في العدد 71 من دورية “Socialist Review”، ص31-65. * E.P. Thompson, Customs in Common: Studies in Traditional Popular Culture (New York, 1991). ** T. Jackson Lears, The Concept of Cultural Hegemony: Problems and Possibilities, American Historical Review 90, 3 (June 1985). *** Michael Omi and Howard Winant, By the Rivers of Babylon: Race in the United States, Socialist Review 71 (September-October 1983). [9] – خلق…، مرجع سبق ذكره، ص9. [10]– للاستفاضة في تومبسون، من الجيد تذكّر أنَّه تحاشى مماهاة التجربة الويلزية والاسكتلندية بتلك التي لإنكلترا، مستشهدًا بالتمايزات في الدين والسياسة والثقافة التي تتطلب البحث. خلق…، مرجع سبق ذكره، ص13. لتبيّان سياقية الاختلاف العرقي، أقتبس مقطعًا كاشفًا من ريتشارد رودريغيز “سألني موظف التسجيل في لندن ما إذا كنت في سويسرا. أما الرجل الذي حمل أمتعتي في نيويورك فظنَّني كنت في الكاريبي. يغدو لون بشرتي دليلًا على رفاهيتي. لكن ما من أحد سيعامل لون بشرتي بذات المعاملة إذا دخلت هذه الفنادق من باب الخدم –يتخذ لون بشرتي أهميته من سياق حياتي. بشرتي، في ذاتها، لا تعني شيئًا.” جوع الذاكرة: تعليم ريتشارد رودريغيز* (نيويورك، 1982)، ص137. * Richard Rodriguez, Hunger of Memory: The Education of Richard Rodriguez (New York, 1982). [11]– تعود هذه العبارة لنيفيل كيرك “Neville Kirk” في دراسته المنشورة في المجلد السادس عشر/العدد الثاني من دورية “Social History” والموسومة “الثقاقة «التقليدية» للطبقة العاملة و«صعود العمل»: بعض الملاحظات والأسئلة التمهيدية”: ‘Traditional’ working class culture and ‘the rise of Labour’: some preliminary questions and observations [12]– ديفيد نيرِنْبِرغ، مجتمعات العنف: اضطهاد الأقليات في العصور الوسطى^ (برينستون، 1996). نيل إيفانس، تنظيم الجيش الاحتياطي: العرب والسود والحكومة المحلية في كارديف^^ (1919-1945) وردت في كينيث لون (محررًا) العرق والعمل في بريطانيا خلال القرن العشرين (لندن، 1985). ^ David Nirenberg, Communities of Violence: Persecution of Minorities in the Middle Ages (Princeton, 1996). ^^ Neil Evans, “Regulating the Reserve Army: Arabs, Blacks and the Local State in Cardiff, 1919-45” in Kenneth Lunn, ed., Race and Labour in Twentieth-Century Britain (London, 1985). [13]– الأعراف المشتركة…، مرجع سبق ذكره، ص6،9. [14]– المرجع السابق، ص15. [15]– خلق…، مرجع سبق ذكره، ص9. [16]– الثقافة التقليدية…، مرجع سبق ذكره. [17]– مجتمعات العنف…، مرجع سبق ذكره؛ منذ الهولوكوست غدا “الدعم العام للعنصرية البيولوجية غير رائجٍ بشكلٍ كبير” لكن حل محلها “تشديد متجدد على الثقافة عوضًا غن البيولوجيا بوصفها مصدرًا جوهريًا للاختلافات…” ص36، مقتبسة من دراسة روجر بالارد الإسلام وبناء أوروبا* الواردة في و.آ.ر شَديد وَ ب.س فان كونينغسفيلد (محررين) المسلمون في الهامش: ردود الفعل السياسية لحضور الإسلام في أوروبا الغربية (كامبين، هولندا، 1996) ص15-51؛ الثقافة النقليدية…، مرجع سبق ذكره، ص216. * Roger Ballard, Islam and the Construction of Europe, in W. A.R. Shadid and P.S. van Koningsveld, eds., Muslims in the Margin: Political Responses to the Presence of Islam in Western Europe (Kampen, the Netherlands, 1996). [18]– كان تومبسون هو مَن حذَّر من “مصطلح الثقافة، وما يوحي به من توافقٍ” مجادلًا بدلًا من ذلك بأنَّ “«الثقافة» مصطلحٌ تجميعي…نحتاج تفكيكه”، الأعراف المشتركة، مرجع سبق ذكره، ص13. [19]– يقول تومبسون بأنَّ “الطبقة تكوينٌ ثقافي بقدر ما هي تكوين اقتصادي”، خلق…، مرجع سبق ذكره، ص13. انظر كذلك ليونور دافيدوف عوالم بينية: منظورات تاريخية حول الجندر والطبقة (نيويورك، 1995). يكتب نيفيل كيرك: “لا تُنتِج الثقافات معانيها الواضحة…فالأخيرة…تخلقها سيرورات التفاعل بين تجميعة القوى الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأيديولوجية”، الثقافة التقليدية…، مرجع سبق ذكره، ص211، يقتبس من كيرك من ريتشارد أوستريتشر “Richard Ostericher” وصفه الثقافة على أنَّها “مجموعة من الاحتمالات…والإمكانيات”، ص211. [20]– “تغدو التعميمات [الأكاديمية –م]، مثلها مثل «تعميمات» الثقافة الشعبية، فارغةً إلى أنْ توضَع بإحكام ضمن سياقاتٍ تاريخية محددة”، الأعراف المشتركة…، مرجع سبق ذكره، ص6. [21]– Orientalism (Vintage, 1979), 1, 2, 5, 17 and passim.; idem., Culture and Imperialism (Vintage, 1993), passim. [22] – atavism: أو الرِدة التطورية، أو التطور العكسي، حالة تعود فيها للكائن صفات من مراحل تطورية فارطة. (م)