أُفنُون التَّغلبي[1]: إِلهٌ صَغيٌر يَرْثِي- يقتُلُ نفسَه
تاريخ التحديث: 7 مارس 2022
المادّة صَنْعة: أنس الأسعد
I.
يَبدُو رثاءُ الذّات في الشّعر العربي منتعشاً كلّما ابتعدْنا عن الزّمنِ الجَاهلي التّأسيسيّ. فالشّاعرُ المثقّف القابض على قلقِه، وخيباتِه ودنوّ أجله لم يكن ابنَ البادية المَهموم بالثّارات والمُعتاد على اطّراحِ حروبها، بقدر ما كان أوّلاً: ابناً للمدينة، والأمصار الحَضَريّة المفتوحة. هنا أوّلُ من يخطر في البال، مالك بنُ الرّيب2 بعد أن نالتْ منه إحدى أفاعِي خراسان، فقال قصيدتَه الجَهيرة، التي يَصحُّ أن توصفَ بــ”أمِّ البَاب”؛ لصيتِها الذَّائع، وسنكتفي بالمَطلعِ منها:
أَلا ليتَ شِعري هل أبيتنَّ ليلةً بجنبِ الغَضا أُزجي القِلاصَ النّواجِيا
لكنّ تدقيقاً في لحظة ابن الرّيب، والزّمن الذي عاش فيه، فإنّنا لا نجدهُ بعيداً كثيراً عن الزّمن الجاهلي؛ كونه عاش في زمن معاوية. بالتّالي لا يمكنُ القطع بينه وبين ما قبل الإسلام، بجدرانٍ صمّاء لا ينفذُ منها الشّعرُ إلا بصعوبة. إنّما يُمكن القولُ عن الإسلام منذ نشأته الأولى وصولاً إلى حدود النّصف القرن الهجري الأول، إنّه حالةٌ بعد- جاهلية، غضٌّ في تمدّنه، سطحيّ في عُمرانه، بناءً على ما تفطّن له ابن خلدون من مصطلحات. عليه فإنّ رثاء الذّات عند ابنِ الرّيب يبني على نفسه لا ليقولَ أنا جديدٌ وذاكَ قديم، على طريقة أبي نواس، الذي سيأتي بعده بما يقربُ المئةَ عام، زمن الرّشيد وابنيه. بل إنّ ابنَ الرّيب يؤسّسُ على نفسه دون أن يعي أيّ خطوط أو تقسيمات، يؤسّسُ على الذّهنية “الفطرية”، ولو أنّي لا أحب استخدام هذه الصّفة لابتذالها إسلاموياً في يومنا هذا. تلك الذّهنية إذن لا تقاطع بينه وبين الجاهليين، وكأنه وكأنهم من دائرتين مختلفين، إنّما تجعله جاهليّاً في ذاته. هذا ولم نقُل شيئاً عن أسبقياته الجنائية التي تدعمُ ملفّه بالانتسابِ إلى الجاهليين ونقصدُ هنا صعلكته.
ثانياً: بقدر ما كان الرّاثي نفسَه، فارساً أسيراً يهدِّئُ نزفَ جراحه الجسدية والنّفسية بالرّوميات كأبي فراس الحمداني، أو بالأدق أيضاً، ما بعد الرّوميات حيث يتجلّى رثاءُ النّفس بشكل أظهر عنده؛ إذ لم تعد مُسبّباتُ الجراحِ روميّةً بل عائلية. وذلك في بائيّته الاحتضارية الشّهيرة بأبياتها الخمسة، عندما راحَ يخاطبُ ابنتَهُ، بُعيدَ طعناتٍ نجلاء سدّدها له ابنُ أخته أبو المعالي بن سيف الدّولة (معكوس دايدالوس ـــ بيردكس، أنظُر المقالة السّابقة)
قولي إذا ناديتني وعييتِ عن ردِّ الجوابِ:
زينُ الشّباب أبو فرا سٍ لمْ يُمتَّع بالشّباب3
وكما فتّشنا عن مَردٍّ جاهلي لصدى رثاءِ ابنِ الرّيب، فوجدناه قائماً في الرّاثي ذاتِه، يصحّ أيضاً أنْ نفتّشَ لأبي فراسٍ عن مردّ جاهليٍّ. لكنّ أبا فراس عاش في القرن الرّابع الهجري، والحالة الجاهلية سواء بالتّقسيم المدرسي (الدّيني) للعصور، أو على صعيد الذّهنية، تلاشت على عكس المثال الأوّل، وبالتّالي لا يصح أن نعيدَ أبا فراس إلى نفسه، بل يجبُ أن نبحث له عن تقاطع ما. عندها ليس أدلّ جاهليّاً ولا أشهر من قصيدة عبد يغوث الحارثي، أسير يوم الكُلاب الثاني، وقتيله:
ألا لاتلوماني كفى اللّومَ ما بيا فما لكما في اللّوم خيرٌ ولا ليا فيا راكباً إما عرضتَ فبلِّغَن نداماي من نجرانَ ألّا تلاقيا وتضحكُ مني شيخةٌ عبشميّة كأنْ لم ترَيْ قبلي أسيراً يَمانيا4
ثالثاً: بقدر ما كانَ الرّاثي نفسَه، أميراً بونابرتياً سُلِب منه ما سُلِب، ونُفِي سياسياً كالمعتمد بن عبّاد، صاحب إشبيليّة، الذي أُعيد بالجَبْرِ المُرابطي إلى أغمات؛ رقعة الصحراء تلك التي لم يألفها من قبل:
فيما مضى كنتَ بالأعياد مسرورا فساءك العيدُ في أغماتَ مأسورا ترى بناتك في الأطمار جائعةً يغزلن للناس ما يملكن قطميرا5
أو قوله في قصيدةٍ أشهر، وحسبنا منها المَطلع: قبرَ الغريب سقاكَ الرائحُ الغادي حقّاً ظفرتَ بأشلاء ابن عبّاد6
ولو أنّ بعضاً من أصداء النّفي وأثره على النّفس المرثيّة عند المعتمد يتردّدُ ويتقاطع مع أثقل أساس من أساسات الجَاهلية، والشّعر العربي بأسره، وأقصد امرَأ القيس، الضّلّيل الذي قضى شريداً طريداً، بحلّته المسمومة وجِلدِه المتقطّع:
أجارتَنا إنّ المزارَ قريب وإنّي مُقيمٌ ما أقامَ عسيبُ
أجارتَنا إنّا غريبانِ ها هنا وكُلّ غريبٍ للغريب نسيبُ7
II.
بعد هذه المقدّمات الاستقصائية في ماهيّة رثاء النّفس، والتّي بعضها من الشهرة فلا يحتاجُ طولَ شرح، ووصولِنا إلى امرئ القيس، يمكنُ لنا أنْ نُذيّلَها بختامٍ وشيك نعبرُ من خلاله إلى موضوعنا الأساس، ألا وهو إلهُ التحوّلات، الصّغيرُ الذي لا يُمكنُ قبضُه: أُفنون التّغلبي. فكيف لامرئ القيس أن يوطّئ لأُفنون؟
بدايةً علينا أن نستذكرَ معاً الموقف الشّكي لعميد الأدب العربي طه حُسين من امرئ القيس والجاهليين بأسرهم، في كتابه المنهج “في الشّعر الجاهلي”، ونضعَ هذا الموقف مقدّمةً كبرى لما سنذهبُ إليه. فامرؤ القيس الكِندي، وإنْ كانَ ربّاً من أرباب الجاهليّة، فهوَ عند العميد قد يكون عبدالرّحمن بن الأشعث الكندي ليس إلاّ8. ذلك الثائر الأرستقراطي الذي حاولَ مُلكاً، عن حقيقة هذه المرة، ومات شريداً إنما في زمن عبدالملك بن مروان الأموي الأكثر وضوحاً وجلاءً من زمن جاهليّ مُغرقٍ بالانتحال. بيد أنّ مسألة الشك في ذاتها ليست هي موضوعنا، لكنّنا سنستعين بها في فهم التحوّل الذي خضع له الشّاعر أفنون التّغلبي، وهنا يأتي دورُ المقدّمة الصغرى: الميثولوجيا، كما يشتغل عليها في يومنا الرّاهن، الشاعر والباحث زكريا مُحمد، والذي لا يُسلِمُ عنُق امرئ القيس لمنهجيّة الشّك وكفى، فيستحيل هيكلاً لا روح فيه، بل يستعينُ عليه بضخّ السّحر في عروقه. وهذا برأيي يساعدُ أكثر في فهم كيف نبتت على أطراف مركزيّة امرئ القيس كلّ تلك الإحالات والتفاسير؟ حتّى وهو مشكوك بكينونته! ومع قراءة زكريّا محمد لأفنون، سنكتشف أنّ تلك المركزيّة لا تُصدِّر ما عندها من ميثولوجيا على سائر الشّعراء، إنما يحدثُ لها أن تستلفَ منهم أيضاً. وبذلك تستوي حكايةُ أشهر الشّعراء كامرئ القيس، مع حكاية شاعر مغمور كأفنون التغلبي، لتكشفَ عن مُتحوّلٍ كبير وكنزٍ ميثولوجي لا يقلّ خطورة عن الأوّل.
في كتابه “ذاتُ النّحيين، الأمثال الجاهلية بين الطّقس والأسطورة”، يتحدّثُ زكريا مُحمد في الفصل التاسع منه عن مَثَل “فلِمَ ربض الحمارُ، إذن؟” وقائلُ هذا المثل عند الأغلبية هو أفنون التغلبي، ولَوَاْنَّ الميداني، صاحب الكتاب الأشهر في بابه “مجمع الأمثال” يذهب إلى أنّ صاحب هذا المثل هو حندج ما غيره. وبما أنّ المَثلَ يُضربُ للشيء فيه علامةٌ تدلّ على غير ما يُقال لك، فقد وجد تجسيدَه في صلب حكاية الضّلّيل الذي حاولَ مُلكاً ومات، عندما ألبسه قيصر الثياب المسمومة وخرجَ من عنده، تلقّاه عيرٌ فربض، فتشاءم امرؤ القيس، فقيل: لا بأسَ عليك، قال: لمَ ربض العيرُ إذن؟ أي أنا ميت9. وهنا يُسائِلُ مُحمّد هل ابتدعَ امرؤ القيس هذا المثل على رأي الميداني أم استشهدَ به فقط، على رأي الأغلبية؟ عند هذه النّقطة نستطيعُ أن نقولَ إنّنا قد عبرنا إلى حِمَى أُفنون، فمَنْ هو هذا الإله الصّغير؟
III.
في مختاراته الشّعرية “المُفضّليّات”10 يوردُ المُفضّل الضّبي الكوفي (ت: بين 168هـ و171هـ) قصيدتين لأُفنون، الأولى وهي القصيدة المفتاح والأعظم دلالة في موضوعنا رثاء النّفس، وهي على صغرها (خمسة أبيات فقط) إلا أنّ دلالتها عُظمى. وقبل أن نخوضَ فيها، لابدّ من الوقوف على ترجمة أفنون، كما أوردها مُحقّقا المفضّليات: أحمد شاكر وعبدالسّلام هارون. فأُفنون لقبُه، أمّا اسمه هو: صُريم بن معشر، لقبه أُفنون بضمّ الهمزة، “وهو واحدُ الأفانين، وقال قومٌ هو جمع فَن، والجمعُ أفانين وأُفنون” قاله ابنُ دريد في الاشتقاق. ولُقّبَ بذلك لقوله في بيت “إنّ للشُّبّان أُفنونا”11 وينوّه المحقّقان في ترجمتهما له إلى خطأ البحتري في حماسته، والجاحظ في البيان والتبيين عندما أسمياه أفنون بن صُريم. لكن لندخُلْ في جو القصيدة، ثم نعُدْ لمعاني اسمه لاحقاً لما لتلك المعاني من أثر في تفكيك القصيدة واكتناه سيرته.
والقصيدة كما وردت في المُفضّليات كالتّالي:
أَلا لستُ في شيءٍ فَروحاً معاويا ولا المُشفقاتُ إذ تبعنَ الحوازيَا فلا خيرَ فيما يكذبُ المرءُ نفسَه وتقوالِه للشيء: يا ليتَ ذا ليَا فَطَأ مُعْرِضاً إنّ الحتوفَ كثيرةٌ وإنّك لا تُبقي بمالِكَ باقيَا لعمرُك لا يدري امرؤ كيف يتّقي إذا هو لم يجعلْ له اللّهُ واقيَا كفى حزَناً أنْ يَرحلَ الرّكبُ غدوةً وأُصبحَ في أعلى إلاهةَ ثاوِيَا
أمّا قصّة هذا الرّثاء، كما أوردها مُحقّقا المُفضليّات (أحمد شاكر وعبدالسّلام هارون) وشارح المُفضليات (ابن الأنباري: ت328هـ) ومحقّق شارح المُفضّليات (كارلوس يعقوب لايل): أنّه لقي كاهناً، فسأله عن موتِه، فقال: تموتُ بمكانٍ اسمهُ إلاهة. (قارّة بالسّماوة) فمكثَ ما شاء الله، ثم سار إلى الشّام في تجارة، ثم رجع في ركب من بني تغلب، فضلّوا الطّريق، فلقُوا إنسانا فاستخبروه، فنعتَ لهم، وقال في نعته: إذا رأيتُم إلاهة، حيِي لكم الطّريق (أي استبان). فلمّا أتوها نزل أصحابُه وقالوا له: انزِل، فقال أُفنون: لا واللّه لا أنزل! فبينا ناقتُه ترتعي عرفجاً (نوعٌ من النّبت) إذ لدغتها أفعى في مِشفرها، فاحتكّت بساقهِ والحيّة مُتعلّقة بِمشفرها فلدغته في ساقه. فقال لأخ معه: احفر لي قبرا فإنّي ميت12، ثمّ رفع صوته وقال ما قال.
لا تبدو القصيدة مُعقّدةً في قراءتها الأولى، ولَوَاْنّ مُشكلاً طفيفاً في بيتها الأول يعترضُنا في الضّبط ليس أكثر، ففي حين ورد البيت الأوّل في المتن عند المفضّل (وعند شارحه بالضرورة)، كما هو أعلاه بضمّ التّاء، نجد إحدى المعالجات الإعرابية للقصيدة تروي البيتَ بطريقة مختلفة، رغم أنّ المصدر الذي اعتمدته هذه المعالجة، هو شارح المُفضّليات ابن الأنباري ومحققه كارلوس يعقوب لايل. ففي كتابِه “التّذكرة في علمِ العربية”13 يورد الدكتور مُحمّد قاسم البيت كالتّالي: ألا لستَ في شيءٍ، بفتح التّاء، وهذا لا يُغيّر في المعنى إنّما تجعلُه أكثر منطقيّة، كون العبارة تُطلقُ في معرض اليأس عموماً، ومنه ما جاءَ في القرآن “لستَ منهم في شيءٍ إنّما أمرُهم إلى الله” الأنعام 159، كما يستشهد د.قاسم. لكنّه يذهب بالكلمة الرّابعة مذهباً إعِرابياً آخرَ، فبدلَ أنْ تكونَ “فروحاً” بمعنى كثير الفرح، حسب المصدر الذي ينقلُ عنه. بدل ذلك نجدها في التّذكرة (ألا لستَ في شيءٍ، فروحَن، معاويا) كذا! ويتّضح من الرّسم أنّها وضعت بين فاصلتين- مُعترضتين على اعتبار أنّ الفاء اعتراضيّة، ورُوحَن: فعل أمر مبنيّ على الفتح لاتّصاله بنون التّوكيد الخفيفة، وجملة (روحن) اعتراضية لا محلّ لها. وإنْ قُلتُم: أليست إشارةُ المُحقق كارلوس لايل الذي يَنقُل عنه د.قاسم، إلى احتمالية الروايتين بين ضّم التّاء وفتحها كي تبدو أشد منطقيّة (ألا لستَ في شيء) Which seems to make better sense14 ثم ذهاب الدكتور قاسم للاستشهاد بالقرآن، تعزيزاً لهذا الرأي. قُلنا: بلى، لكنّها لم تردْ أيّ إشارة مثلها عند المُحقّق في (فروحاً) لتصبحَ (فروحن) وتُقلَب هكذا من الاسميّة إلى الفعليّة.
يتابٍعُ البيت الأوّل أصداءَ اليأس واللاجدوى في شطره الثاني: ليصفَ حالَ المُشفقات (النّساء) اللواتي يتبعن الحوازي (الكهّان) فلا يُغني هؤلاء عنهنّ شيئا ممّا يتمنّينه. ولِنَقِفْ قليلاً مع هذه الكلمة لأنها تُدخِلُنا في الجوِّ الأثيري/الأرواحي للقصيدة. يُفسّر الدّكتور جواد علي في مَعْلمَتِه الموسومة بالمُفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام كلمة الحازي بأنها لفظة تُطلَقُ على من يحزر الأشياء ويقدرها بظنه، فهي من الكلمات المستعملة في الكهانة، ويطلق على من يشتغل بالنجوم اسم “حزّاء”، لأنه ينظر في النجوم وأحكامها بظنه وتقديره15. أمّا الباحث اليمني الشّاب مُحمّد عطبوش فقد اقترب في تفسيره للكلمة ليس بالذّهاب إلى شُقّ وسُطيح من كهان العرب المغمورين، إنما فسّرها من خلال شخصيّة ألفناها أكثر. وعلى ضوء نقوش المُسنَد اليمنيّة لا يستبعد أن يكونَ جبلُ “حِراء” جبلَ “حِزاء” وذلك لمكوثِ الرّسول فيه الليالي الطوال ممّا أدّى لاتهامِه أنّه ساحر وكاهن. ولعلّه من المُفيد أن نذكر ملاحظة الباحث ويتون ديفيز عن وجود عشبة عربية اسمها “حِزا” مرتبطة بالسّحر والكهانة. وتذكر كتب التراث أنّ الحيّات تهربُ من رائحتها16. (لنا وقفة في قادم الأيّام مع كتاب عطبوش: الفِكر السحري في الإسلام).
في حين تنسابُ الأبيات الثاني: حيث النّفْس المحبَطة أمام الواقع وحقيقته، وبروز “ليتَ” التي ستصبح في عصور قادمة من العُدّة الرئيسة في الرّثاء. فالثّالث: إقدامُ المتيقّن من وفاته “إنّ الحتوفَ كثيرة” العبارة التي سيستعيرها منه قاسم حدّاد كما سنوضّح في فقرة كاميرا المُتلمّس، وازدراؤه المال في الشطر الثاني منه. فالرّابع: الأقْسَام والأيمان المُغلّظة، باختصار إنّها حكمة الاحتضار التي تجتاز الأزمنة ويعيها كلُّ امرِئ منّا دونما وعورة أو استغلاقٍ يُذكَر. لِنصلَ إلى البيت الخامس، وهنا يتردّد اسمُ المكان الذي ماتَ فيه وهذه إحدى لازمات التّفجّع في رثاء النّفس، للدّلالة على حجم الاغتراب المكاني الذي أضنى نفس صاحبه. فكما وُورِي ابن الريب الثّرى في أبْرَشهر17 (وفقاً لياقوت في مُعجمِه)، وهو أكثر شاعر فيه حصّة من أفنون، خاصّة أنّهما يتقاسمان ميثولوجيا الأفعى ولدغها لهما بوضوح، وموت مالك إثرها على الفور. أو كما قضى المُعتمد نحبَه في أغمات، وأفعى المعتمد هنا مؤوّلة سياسياً سدَّ مسدّها يوسف بن تاشفين، مؤسّس دولة المُرابطين. وكما الأسير اليماني المهزوم عبد يغوث إذ بَعُدَ عن نديميه في نجران، وأزرى به الدّهر فكانت أفعاه امرأةٌ عبشميّة شامتة. وكما الملك الضّليل وحُلَله المسمومة التي ألحدته في أنقرة، فإنّ إِلاهةَ هي اللحدُ الذي سيضمّ أفنون.
ولمّا وصلنا إلى ذِكْر الأمكنة فلا بدّ من الاستعانة بصاحب معجم البلدان، ياقوت الحموي، الذي روى الشّطر الثاني من البيت الأخير كالتّالي: “وأصبحَ في عُليا الأُلاهة ثاويا”. (ويجوزُ عند كارلوس لايل في أصبح: أُترَكَ، وفي الرّكب: القوم)، قبل هذا فإنّ رواية ياقوت للقصّة بأسرها، تعيدُنا إلى قصة من هو صاحب المَثل عند الميداني؟ لأن مع ياقوت لم يكن أفنون يركبُ ناقةً إنّما حمار، وكذلك امرؤ القيس عند الميداني، عندما ربضَ الحمارُ أمامه فتشاءم. وهو ــ أي أُفنون ــ لم تلدغه أفعى أصلاً كما في الرّواية الأول، أو كما حدث مع مالك بن الرّيب، بل إنّ أفنون، “الياقوتي” إن جازَ التعبير، قد تطيّر بمجرّد أنْ ذكرَ الرّجل الدّليلُ اسمَ إلاهة قبل أن يصلوها، ولذلك قال: لستُ بارحاً، فنُهِشَ حمارُه فسقط فقال: إنّي ميّت! قالوا: ما عليكَ باس؛ قال: ولمَ ركض الحمار؟ فأرسلها مَثلاً18.
يتلخّص عندنا بعد هذا العرض ثلاثُ مشكلات، الأولى بين رَكض وربَض وفيها يذهبُ الباحث زكريا مُحمّد إلى التّصحيف. والثّانية الاختلاف على أيّ شيء كان يركب أفنون البعير (النّاقة) أم العِير (الحمار)، والفرق بين هذين واسعٌ ميثولوجياً كما يرى ز.مُحمّد. وبمجرّد حلّه فإنّ هذا يؤسّس لحلّ الإشكالية الثّالثة بين معنى إلاهة ومعنى أُفنون نفسه. فالعير- الحمار هو رمز للإله الشتوي، وربوضه يعني أنّه سيدخل في سباته، بمعنى أنّ الأفعى سواء لدغته (كما في الرّواية الأولى عند المفضّل) أو قبل أن تلدغه (كما في الرّواية الثّانية عند ياقوت، وعند الميداني الذي يرجّح أنّ أصلَ المثل لامرئ القيس) فإنّه علم أنّ وفاته قد حانت.
وفي هذا التحليل تتجاوب اشتغالات زكريا محمد المعرفيّة مع بعضها بعضاً، فكما استحالَ عامُ الفيل، في كتابه الحُمْس والطُّلْس والحِلّة (راجع مقالة: محطّة فريدة مع الباحث زكريّا محمد) إلى عامٍ مسرحيٍّ لزمن دائري يعودُ أبداً، ويبتلعُ فمُه ذيلَه، بأمارة أنّ عائشة كانت قد شاهدت تلك الحجارة وشاهدت قائد الفيل وسائقه أعميين يستطعمان النّاس19، على ما يفصِلُ بينها وبينه من أعوام (حسب التأريخ الديني لعام الفيل الذي يُثبّته في عام مولد محمد 570م) فلو كان العام ثابتاً لأصبحَ مستحيلاً على عائشة أن ترى ذلك الرجل، سيكون قد مات منذ زمن طويل. لولا أنّ هذا العامَ ليس ثابتاً قارّاً في التاريخ، بقدر ما هو مُنتَجٌ تُعاد صياغته، مسرحيّة كونيّة أبديّة.
كذلك أفنون التّغلبي بوجوده المسرحي، فإنّه كائنٌ أفعوانيّ المزاج، مدوّر الهيئة كي يقوى على ابتلاع نفسه. فتقمُّصُه بأفعى ابن الرّيب تارةً ليس عن عبث، وليس انتحالاً حسب الكلمة الشّكّية الأثيرة في منهجيّة العميد طه حسين، ولو أنّ قديماً وحديثاً تمّ الالتفات والتصويب على هذه المُشابهة بين قصائد أُفنون، وابن الرّيب، وعبديغوث، وجعفر بن علبة وفي هذا ينقل أبو الفرج الأصفهاني عن أبي عُبيدة قوله: الذي قالَه مالكُ بن الرّيب ثلاثة عشر بيتاً، والباقي منحول ولّده النّاس عليه20 وهذا ما تفطّن إليه مُحقّق ديوان ابن الرّيب، نوري حمودي القيسي في مقدّمته للديوان: ويبدو أنّ اختلاطاً قد وقع بين قصيدة عبديغوث الحارثي، وأفنون التّغلبي، وجعفر بن علبة الحارثي، ومالك بن الرّيب، لتشابه هذه القصائد في الوزن والقافية والغرض وتضارعه في بعض المعاني، والصّور والأفكار، وربما أوحت هذه الأمور إلى الذين شكّوا في بعض أبياتها، معتقدين أنّ نحلاً أو تداخلاً وقع في بعض الأبيات، فذهبوا هذا المذهب.
وهذا صحيحٌ لاشكّ فيه، بيد أنّ الاكتفاء بمذهب الشّك والانتحال، دون إضافة عنصر الميثولوجيا، سيتركُنا أمام هياكلَ لا روحَ فيها، ومن هنا المُشاكلة الأثيرية التي نقترحُها بين أُفنون وابن الريب من جهة، وبين أفنون وامرئ القيس وتلبيس أفعى الأوّل بحُللِ الثاني المَسْمومة. في نهاية المطاف، من يدري أي علاقة أثيريّة تربطُ كاهنه الذي بشّره بالموت في إلاهة، بنبوءة ساحر بشّر أميراً أندلسيّاً بأقوامٍ يطرأون على الجزيرة (الأندلس) ويستحوذون عليها، ويطردون ابنَه منها. وكذا حصل!21
IV.
إنّ أفنونَ إلهٌ حُلُولِيٌّ صغير أنقذته التّحولات، ولوانّ الشعراءَ الكبارَ قد أعملوا فيه مطارقَهم حتّاً وفتّاً. ومصداق ذلك ما جاء في لسان العرب أفنون هو الحيّة، وقيل العجوز المسنّة، وقيل الدّاهية22. ومثله اللحد الذي قضى به، فإلاهة تستدعي صاحبَها إلى قدره وسباته بالضّرورة، ففي لسان العرب مادة (أ ل هـ) اللاهة الحيّة، والإلهة أيضاً الجبل، والحيّة بنتُ الجبل وتسعى إليه لتقضي سباتها فيه حسب زكريا مُحمّد. أمّا عند الجوهري في الصّحاح مادة (أ ل هـ) إلهة اسمٌ من أسماء الشّمس غير مصروف، وربّما صرفوه وأدخلوا فيه الألف واللام فقالوا: الإلاهة، وله نظائر من ذلك نسرٌ، والنّسرُ اسمُ صنم، وكأنّهم سمّوها إلاهة لتعظيمهم لها وعبادتهم إياها و(الآلهة) الأصنام سُمّوا بذلك لاعتقادهم أنّ العبادة تَحقّ لها.. والتّأليهُ التّعبيد23.
أخيراً، ماذا عن أبي فراس، هل تخلّى أفنون عنه وأحالَه إلى إله آخر، ليست ترسيمة رثاء نفس ـــ سمّ أفعى من اختصاصه، إنما يختصّ بترسيمة رثاء نفس ــ أسرٌ وسجن، كعبد يغوث الحارثي الأسير؟ وهذا لا يحتاجُ اسمُه تفحّصاً معجمياً حتى نستدلّ على مقدار الميثولوجيا فيه!
بما أنّ ما وصلنا من أفنون ليس كثيراً، إنْ هو إلا أبياتٌ معدودات، فيمكنُنا أنْ نُكملَ مع المُفضلّ الضّبي في مختاراته، فنفتح الباب لمن يودّ المتابعة، ولنقفَ في مقام الختْم هذا، على القصيدة الثانية التي أوردها له وهي من (تسعة أبيات فقط)، وهي قصيدةٌ عِتابية تليقُ بمن أحسّ اغترابَه عن أقاربه وتقصيرهم بحقّه وكأنّه في سجنٍ معنوي كبير، كما أحسّ بذلك أبو فراس لمّا تلكّأ ابنُ عمّه في فدائه فزاد فوق ضيق سجنه المادي ضيقا معنويّاً. وعلى الطريقة الجاهليّة لقُريط بن أنيف، الذي افتَتَحَ به الشّاعر العبّاسي الكبير أبوتمّام مختاراته المَوسومة بالحماسة: “لو كُنتُ من مازنَ لم تستبحْ إبلي… الخ” كذلك يفتتح أُفنون مُفضَّليّته الثانية التي يُعيّر فيها قومه التغلبيين قائلاً “لو إنّني كنتُ من عادٍ ومن إرَم… الخ”. ليسَ هذا موضوعنا، بالرّغم من أنّ التّحسّر بـ”لو” الامتناعية العِتابية، قد فتحت لأفنون عمله الشّيطاني الحُلولي، وإنْ بمستوىً أقلّ من التّمني بـ”ليت”، كما في البيت الثاني من مرثيّته نفسَه، هذه الـ”ليت” التي ستتكرّر مراراً في هذا النّوع من الرّثاء. ويبدو أنها بلطْفِ كلماتها المسحورات، ووحيِ صاحبها الخَفيّ، هي من ستتكفّلُ بإخراج أفاعي رثاء النّفس من بَياتِها، عند سائر الشّعراء في العصور التاّريخية والأدبيّة اللاحقة.
تمّت. ـــــــــــــــــــــــ
كاميرا المُتلمِّس | اللّقطة
الجودة التلقائية 144
هناك أبياتٌ لأفنون ذكرها الجاحظ في “الحيوان”، ونسبها لجابر بن حُني التّغلبي، كما يُنبّهُنا محققا المُفضّليات، وهي تعنينا هنا كقائمين على هذه الصَّحِيفة، يقولُ أُفنون فيها مُفتخراً بقتل عمرو بن كُلثوم لــعمرو بن هند:
لَعَمرُكَ ما عَمرُو بنُ هِندٍ وَقَد دَعا لتخدِمَ أمّي أمّهُ بموفّقِ فَقامَ اِبنُ كُلثومِ إِلى السَيفِ مُصلَتاً فَأَمسَكَ مِن نَدمائِهِ بِالمُخَنَّقِ وَجَلَّلَهُ عَمرٌو عَلى الرَأسِ ضَربَةً بِذي شُطَبٍ صافي الحَديدَةِ رَونَقِ
720P .2
كما تعنينا أيضاً الطريقة التي قُتل بها عبديغوث وهي تشبه كثيراً الطريقة التي قُتل بها طرفة، إذ أبَتْ بنو تميم إلا أن يقتلوه بعدَ أسره، وكانوا قد شدّوا لسانه وهو في الأسر كي لا يهجوهم. فلمّا لم يجد بُدّاً من القتل طلب منهم أن يطلقوا لسانه فرثا نفسه وناح، ثم أسقَوه خمراً وفصدوا أكحله، فنزف حتّى مات. وقد تفطّن الجاحظ لمشاكلة أدقّ بينهما، تتعدّى المصير فقال: وليس في الأرض أعجب من طَرَفَةَ بنِ العبد وعبد يغوث الحارثي؛ وذلك أنَّا إذا قِسنا جودةَ أشعارهما في وقت إحاطة الموت بهما لم تكن دون سائر أشعارهما في حال الأمن والرفاهية”. الجاحظ – البيان و التبيين ج2 ص268.
1080 HD .3
وردَ ذِكْرُ أفنون عَرَضاً في ديوان قاسِم حدّاد عندما استعارَ منهُ قوله “إنّ الحُتوفَ كثيرة“ قال: “إن الحتوفَ كثيرةٌ” سيقول أن نأخذَ بثأره الآن وهو في نشوة الموت بالنبيذ
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1. أُنْظُر ترجمتَه، المُفضّليات، تحقيق وشرح أحمد شاكر وعبدالسّلام هارون، دار المعارف، الطّبعة السّادسة، ص260.
2. ديوان مالك بن الرّيب، تحقيق نوري حمودي القيسي، مُستَـلٌّ من مجلّة معهد المخطوطات العربية، مج 15، جـ1.
3. ديوان أبي فراس الحمداني، شرح الدّكتور خليل الدُّويهي، دار الكتاب العربي، ص59.
4. المُفضّليات، ص155.
5. ديوان المُعتمد بن عبّاد، ص100
6. المصدر نَفسه، ص96
7. ديوان امرئ القيس، ص357
8. انْظُر كتابَه في الشّعر الجاهلي، دار المعارف للطّباعة والنّشر، ص145 وما بعدها.
9. زكريّا محمد، ذات النّحيَيْن، ص147، (نقلاً عن مجمع الأمثال للمَيداني)
10. حسب المُحقّقين، فإنّ المُفضّليّات أقدم مجموعة صُنِعت في اختيار الشّعر العربي. ثمّ جاءت بعدها الأصمعيات.
11 البيت كاملاً: منَّيْتِنَا الودَّ يا مَضْنون مَضْنُونا أزماننا إنّ للشّبانِ أُفْنُونا.
12. المُفضّليات، ص260
13. د.محمّد قاسم، التّذكرة في علم العربية، دار البشائر، ص416 وما بعدها.
14. شرح المُفضّليات، لأبي مُحمّد القاسم بن الأنباري، تحقيق كارلوس يعقوب لايل، مطبعة الآباء اليسوعيين، 1920، ص523.
15. د.جواد علي، المُفصّل في تاريخ العرب ص1643.
16. محمّد عطبوش، الفكر السّحري في الإسلام، دار الرافدين، 2019، ص173. أُنْظُر أيضاً في معنى الحازي: توفيق فهد، الكِهانة العربية قبل الإسلام، تر: رندة بعث وحسَن عودة، ص95.
17. أَبْـرَشَهْر، وتجدر الإشارة إلى أنّ ياقوت لم يجعل لا وفاة مالك ولا أفنون بالأفعى، إنما بمرض (معجم البلدان، المجلّد الأوّل، دار صادر، ص65)
18. المصدر نفسه، مادة أُلاهة، ص:243
19. زكريّا مُحمّد، الحُمس والطّلس والحِلّة، الأهليّة، 2012، ص223
20. ديوان مالك بن الرّيب، تحقيق نوري حمودي القيسي ص64. (نقلاً عن أبي الفرج: الأغاني)
21 . إشارة إلى أسطورة: تُنمى عن المعتضد بن عباد الذي خشي على عرشه من الضياع. فبعد أن قضى على البربر؛ إذ اعتقد أنهم مصدر نبوءة منجّميه التي تقول إن عرشه سيسقط على يد رجالٍ من خارج الأندلس، سمع بأخبار ظهور دولةٍ جديدةٍ في المغرب من الملثّمين، وعندما سمع أحدُ معاونيه بذلك حاول طمأنته بأنَّ الملثمين بعيدون عن الأندلس، فقال له المعتضد: هو والله الذي أتوقع وأخشاه، وإن طالت بك حياة فستراه، اكتب إلى عاملنا على الجزيرة الخضراء باحتراس جبل طارق حتى يأتيه أمري. (نقلاً عن كتاب علي أدهم: المعتمد بن عبَّاد، وزارة الثقافة، القاهرة)
22. زكريا مُحمّد، ذات النّحيين، ص150
23. يمكنُ تأكيد ذلك والتّوسّع من خلال، المُقارنة التي عقدها الدكتور جواد علي عندما تحدّث عن مظاهر عبادة الجبال عند الصّفويين (سُكان تُلول الصّفا في البادية الشّاميّة) الذين عبدوا إلهاً عُرِفَ باسم “إله هجبل” أو “هاجبل” وهو يقابل الإله المُسمّى ELagabal وهو كناية عن الشّمس وكان يُعبَد في حِمص. وقد رُمِزَ إليه بحجر
أسود. (جواد علي، المُفصّل 5، 152)