تقشير غريبر: هنا الدَّيْن فلترقص هنا
تاريخ التحديث: 16 يوليو 2020
مادة لـ علاء بريك هنيدي
«دّيْن الدولة أداة سياسية لحكم الطبقة، ويأتي هذا الدَّيْن من تراكم رأس المال، تتحوَّل هذه الأرصدة إلى أداة سياسية لإنفاذ إرادة الدائنين. مع الدَّين يزداد التقشف، وفي حال كانت الحكومة هي من تستدين فالتقشف سيتحمله مجموعة من الأفراد، أي طبقة بعينها.»
_____________________
تُشكّل مراجعة كتاب الدّين مَدخلاً لنقد سائر اشتغالات ديفيد غريبر: صدر منذ قرابة عشر سنوات كتاب “الدَّيْن: الخمسة آلاف سنة الأولى“، ثم بعد ذلك بخمس سنوات بترجمةٍ عربية عن المركز القومي للترجمة. لاقى الكتاب صدىً طيبًا، سواء في لغته الأصلية أو ترجمته العربية. لعل أول ما يلفت المرء حين يمسك الكتاب هو ضخامته، إذْ أتى في أكثر من 500 صفحة بلغته الأصلية، وما يقرب من 700 صفحة في ترجمته العربية، أثقلها المترجم بكومة من الهوامش لا يؤثر حضورها أو غيابها في الغالب على تلقي النص. [نُقدِّم هنا مراجعة للكتاب لا للترجمة، لذا لن نتطرق بعد الآن لهذه النقطة. نكتفي بالتنويه أنَّ المقتبسات في هذه المراجعة من ترجمتنا.]
-
إحماء ع الخفيف
بالرغم مما يبدو عليه الكتاب من ضخامة في عدد الورق، إلّا أنَّ مقابلة هذه الضخامة مع العنوان توقِع المرء في مفارقة. بدايةً، ثمَّة 5000 سنة صبَّها المؤلف في 500 صفحة، لو قاربنا هذه النقطة من زاوية رياضية بحتة [نسبة وتناسب يعني] فإنَّ لكل قرن عشر صفحات بهوامشها ومراجعها. تقفز إلى الذهن مباشرةً مفارقة أخرى مفادها أنَّه مع كل هذا التكثيف فلا بد أنَّ الكتاب يقطر تجريدًا، بيد أنَّ الأنثروبولوجيا عند غريبر –دع عنك أناركيته– تهتم بالممارسات والعادات والأعراف الفعلية، كما هي فعلًا في الواقع، أي المادية الفجة، والكاتب هنا لا يخفي إعلاءه لهذا التوجه والحط من التجريد، لاحقًا في الكتاب سنجده يقول “ما من مشكلةٍ في كون الاقتصاديين ينمذجون الواقع في معادلات رياضية [أي يمارسون التجريد] بيد أنَّهم [والعهدة على غريبر] يفعلون ذلك بشكلٍ كاريكاتوري بدائي…ولمن المضحك التظاهر بأنَّنا نستطيع اختزال السلوك البشري والاقتصاد وخلافه إلى معادلةٍ رياضية من أي نوع” (الدَّيْن، ص188).
لو شئنا الابتعاد عن الهواجس الاستقرائية أعلاه تتلقفنا مفارقة منهجية يطرحها العنوان: فمن جهة حدَّدَ النطاق الزمني، ولو بخمسة آلاف سنة [إشطة يعني]، لكنه ترك النطاق المكاني بلا أي إشارة. هكذا تتلقفنا هذه المفارقة المنهجية لترمينا مجددًا إلى المفارقة الأولى [الرياضية إنْ شئتم]، فلئن كانت 5000 سنة ومقابلها 500 صفحة تجعلنا نتردد، نوعًا ما، في أخذ الكتاب على محمل الجد، فإنَّ 5000 سنة في طول الكوكب وعرضه تجعل من أخذه على محمل الجد مغامرة لا بد وأنَّ غريبر جهَّز لنا فيها من المتعة والفائدة وشحذ الذهن ما يجعلنا مع آخر صفحة من الكتاب نأسف لما جال في خاطرنا عند إطلالتنا من شرفة العنوان!
إذن، من الشرفة لا يبدو المشهد مشجعًا. لكن المحك صفحاتُ الكتاب وهو ما سنتابع معه تاليًا.
غريبر في الميزان
يؤطِّر غريبر مع نهاية الفصل الأول كتابه في الإطار الآتي: “هذا الكتاب هو تاريخ للديون ولكنه يستخدم هذا التاريخ وسيلةً ليسأل أسئلة جوهرية عن حال الكائن البشري والمجتمع وما قد يتطوران إليه”، ثم يقول أنَّ في الكتاب “عديد الاكتشافات غير المتوقعة”! وهذا قد “مهد المسرح لمقاربة جديدة للخمسمائة سنة الأخيرة،” ولكسر الفهم السائد فإنَّ الكاتب “يطرح أسئلة كبيرة.” (الدَّيْن، ص34-35). لنتذكر جيدًا هذه الفقرة ونتركها الآن جانبًا.
يتميز غريبر بسعة اطلاعٍ موسوعية، يدلِّل على ذلك غزارة المراجع التي ينهل منها. سعةُ الاطلاع هذه تحرره نسبيًا من قيود المنظورات البرجوازية في أوروبا، فالمؤلف بريء من ميولها وأيديولوجياتها. فالتاريخ عنده ليس تاريخ أوروبا فقط، والحضارة ليست فقط الحضارة الغربية، والأخلاق ليست الأخلاق الغربية. هذه ميزة تُحسَب لغريبر. بيد أنَّ سعة الاطلاع هذه لا تأتي بدون آثار جانبية، فها نحن نقرأ في آخر فصول الكتاب بعضًا مما تثيره في نفس المؤلف “أريد كتابةَ كتابٍ يغطي حقولًا واسعة بشكلٍ علمي –كتابٌ لم يعد يُكتَب مثله هذه الأيام. ينطبق ذلك أيضًا على علماء الأنثروبولوجيا أمثالي، فدائمًا ما كنت أشعر بوجود مفارقةٍ مأساوية إزاء تموضع الأنثروبولوجيين ضمن الأكاديميا. إذْ حصروا أنفسهم، لمدة قرن، في دور المتطفلين.” (الدَّين، ص661).
وفي نفس السياق لا بد أنْ نذكر بأنَّ غريبر قد شرع في الدَّيْن إبان أزمة 2008 فكانت هذه الأزمة أحد روافع إنجازه للكتاب: “كان هذا السياق السياسي الأوسع قد أحال ما خِلته في الأصل كتابًا نظريًا بمنحىً أكاديمي إلى شيءٍ أوسع.” (الدَّين، ص661). سبق لغريبر أنْ كتب شيئًا مشابهًا في كتابه نحو نظريةٍ أنثروبولوجية للقيمة “Toward an Anthropological Theory of Value” “في سياق الكتابة…كنت كلما كتبت أكثر، دُفِعتُ أكثر لمواجهة حقيقة أنَّ افتراضاتي وأولوياتي تتعارض بشكلٍ قطعي مع ما يُعدّ اليوم المعرفة الشائعة والمشتركة عند العلوم الاجتماعية…ووجدت نفسي مُلزَمًا بتوضيح نقاط الاختلاف، عندئذٍ أدركتُ أنَّ هذا الكتاب كان ينقلبُ إلى شيء أكثر طموحًا.” (نحو نظرية، صxi).
إنَّ اندفاع غريبر، المفهوم بالطبع، لعرض ما لديه [بغض النظر عن تهافته أو تماسكه] تجعل الكتابة ماسكةً بلجامه بدلًا من أنْ يُمسِك هو بلجامها. يفضي به ذلك إلى التوهان ومعه يتوه القارئ كما تُعرِب عن ذلك إحدى المراجعات. مرد التوهان هذا لا يقع على نحو رئيسي في مسألة مَن يُمسِك بلجام مَن، بل في مسائل أخرى سنتطرق لها في القسم التالي. لو جمعنا إلى نقطة الاندفاع ما نقرأه في (الدَّين، ص661) نجد أنَّ هذا الاندفاع –وهو غير مخصوص على كتاب الدَّيْن– معزَّز بمهمة إعطاء مكانة معينة يراها غريبر للأنثربولوجيا المغبونة عمومًا، والأنثربولوجيا الأناركية خصوصًا. يمكن الرجوع إلى النصف الأول من كتابه شذراتُ أنثروبولوجيا أناركية “Fragments of An Anarchist Anthropology” للوقوف على نقاشات أوسع.
بطبيعة الحال فالميزة الثانية عند غريبر تأتي من حقله الدراسي، الأنثروبولوجيا. تحبو الأنثروبولوجيا باحثيها بميزة الوقوف على أرضية مادية ملموسة، وهي تشترك في ذلك مع أفرع علمية تترابط معها كالإثنوغرافيا والسوسيولوجيا مثلًا. لكن الاستفادة الكلية من هذه الميزة تقع على عاتق الباحث. ماركس وإنجلز على سبيل المثال لم يفوّتا هذه الميزة وتشهد على ذلك دفاترهما الإثنوغرافية، وأعمالهما الغنية بعادات وممارسات وأعراف الشعوب والحضارات المختلفة والغوص فيها وفهم سياقاتها وعلاقاتها ضمن الكلية. إلّا أنَّ غريبر يتخلف هنا عن القيام بالمثل.
أما الميزة الثالثة فتأتي من نقده للتصورات الاقتصادية. ينتقد غريبر بعض المسلمات الاقتصادية (حكاية المقايضة؛ المنافسة؛ حرية السوق؛ ديمقراطية الرأسمالية وغير ذلك)، يقف هذا النقد على أرضية عرض أمثلة تطعن في الفكرة الشائعة. على سبيل المثال، السوق في الإسلام لا تقوم على المنافسة، بل على الشرف وهذا يطعن بحتمية أنْ تكون الأسواق تنافسية. أما في نقده لحكاية المقايضة يستعين بالأعمال الأركيولوجية والأنثروبولوجية ليُبيّن أنَّ هذه القصة التبسيطية قصة مختلقة لا أساس إمبريقي لها. لكن بعد كل ما أطلقه غريبر من أعيرة اتجاه الاقتصاد يسأل المرء، حسنًا هل أسقطَت نيرانه علم الاقتصاد؟ في الواقع لكي تُسقط أي شيء فأنت بحاجةٍ إلى ضرب القاعدة التي يقف عليها، وهذا ما لم يفعله غريبر. قصة المقايضة مثلًا ليست بأي شكل أساسية لعلم الاقتصاد أو اشتغاله. مثلما أنَّ ما من اكتشاف غير متوقع في الانتقادات السابقة، فالأدبيات لم تَغفَل عنها، وغريبر لم يضعها ضمن إطارٍ تحليلي جديد يجعلها تظهر بمظهر جديد أو تقدِّم لنا منظورًا كان غائبًا عنا. بل بالأحرى ما يظهر جليًا هو غياب التحليل وحضور الرص، رص الأمثلة والاقتباسات بجانب بعضها، وهجومه على الاقتصاد السياسي بمدارسه المتباينة مع الاقتصاد القياسي بمختلف منطلقاته بدون تمييز. وفيما يتصل باختلاق القصص، أو بالأعم التخييل، وهو ما يحمل عليه غريبر بشكلٍ كبير فإنَّه يُلدَغ من ذات الجحر الذي أغار عليه، إذْ يقتطع أمثلته من سياقها التاريخي ويبني عليها، لكن هذا الاقتطاع/الانتزاع لا يثير لديه أي شكوك في كون تجاهله لسياق الممارسة التاريخي وصيرورتها يُعدّ بالمثل إغراقًا في التخييل والاختلاق. إنَّ القصة الخيالية لا تقتصر على أنْ تكون قصة مُختلقة، بل يمكن أنْ تكون قصةً مجرَّدة من ظروفها وشروطها التاريخية.
أما الميزة الرابعة لكتاب غريبر، وفي الحقيقة مجمل أعماله، أنَّه ينتقد أخلاقيات الرأسمالية ويطرح بعض الأمثلة المضادة. ثمَّة الإيثار بدلًا من الربح؛ التعاون والمساعدة المشتركة بدلًا من المنافسة. لكنها في واقع الأمر مقابلات كاريكاتورية، نجده مثلًا يستشهد بمثال “إذا ما طلبت إشعال سيجارتك من ثري فسيشعلها لك دون أنْ يطلب منك مقابلًا، أو مثلًا أنْ تطلب من زميلك في العمل بعض الأوراق فيمررها لك…هذه ممارسة شيوعية [!!!]”. هذه إحدى الاكتشافات غير المتوقعة كما ذكرَ لنا سابقًا. لنترك غريبر 2001 يُعلِّق على غريبر 2011: “اختار [مارسيل] موس منهج الإثنوغرافيا المُقارن [لتطوير النظرية الثورية]…لكن في حال أخذ المرء هذا الخط الموسي [نسبةً لموس] بحماسة غير نقدية سينتهي به المطاف إلى نسبويةٍ ساذجة تُغفِل علاقات القوى بشكلٍ صارخ.” (نحو نظريةٍ، صxiii).
مع ذلك، لا يخلو الكتاب من فوائد وإلماعات تُغني القارئ، منها كما قلنا سابقًا تنوع المصادر التي ينهل منها. ستقع على قصصٍ من العالم الإسلامي وتلتقي بعادات بعض القبائل الإفريقية وسردًا مقتضبًا لحملة الغزاة الأوروبيين على العالم الجديد، وغير ذلك من القصص التي يمكن لك التوسع فيها بتتبع المراجع التي استقاها المؤلف لعرض هذه القصص. وفي ظل ظرفنا الحالي لا يمكن لنا إغفال طرحه لفكرةٍ شديدة الأهمية: إسقاط الديون. إذْ تأتي هذه الفكرة كتتويج لدراسة المؤلف. لم يكتفي غريبر بطرحها نظريًا بل كانت حاضرة عبر نشاطه العملي لدمجها في مشاريع وحركات ومبادرات التغيير السياسي. قد لا تتفق وإياه على المسار الذي قطعه للوصول إلى هذه الفكرة، لكن يبقى طرح إسقاط الديون طرحًا راديكاليًا وضروريًا في آن.
أخيرًا وليس آخرًا، تتميَّز الأبحاث الأنثربولوجية بكونها تفتح الأفق لتصور إمكانات وبدائل مختلفة. يوفر تصفح الكتاب مثل هذه الميزة، لكن تبقى منقوصة إذْ أنَّ المؤلف يكتفي بالرفرفة على السطح وينفر من الغوص إلى الأعماق، عرض بلا تحليل ومنزوع السياق، إنَّها أنثروبولوجيا أناركية. نكتفي بهذا القدر وننتقل وإياكم إلى القسم الثاني من المراجعة حيث سنركِّز على جوانب منهجية.
ما لا يصلحه العطار
سبق وأوردنا أنَّ التوهان البادي في الكتاب وما يتبعه من توهان عند القارئ، لا يعود بالأساس لمسألة مَن يمسك بلجام مَن، أهي الكتابة مَن تمسك بلجامه أم هو مَن يمسك بلجامها. في هذا القسم سنحاول التركيز على بعض الجوانب المنهجية وللتسهيل فقد أوردناها في ثلاث نقاط تترابط مع بعضها البعض بشكل وثيق.
1- لا تاريخ:
تبدو هذه النقطة مستغربة، فكيف لكتابٍ لا يمر فصل فيه دون أنْ تحضر الاستشهادات بالتاريخ والاحتفاء به، لنتذكَّر فهذا الكتاب “يستخدم التاريخ ليسأل…إلخ.” لكن ما نريد قوله على وجه التحديد أنّ الكتاب ينكر تمرحل التاريخ، ينكره واعيًا. يسمح له ذلك بالنظر إلى أي ظاهرة تاريخية على أنَّها ظاهرة مفرَّغة من محتواها التاريخي؛ بالتالي ظاهرة عابرة للتاريخ ذات جوهر “Substance” ثابت. يظهر هذا بوضوح في كتاب الدَّين فالديون هي الديون سواء كانت عند مجتمعات بدائية تستخدم النقود في تعاملاتها أو عند مرابي من البندقية أو عند شركة في وادي السيلكون أو غير ذلك. فهذا الدَّيْن هو الدَّيْن، كان اسمه الدَّيْن وما زال اسمه الدَّيْن، بذا فهو لم يتغير!
يشكِّل غياب التاريخ –بألف ولام التعريف– حضورًا بارزًأ في نصوص غريبر، كما إنَّه يبيّن جزئيًا عدم اكتراثه بتحديد النطاق المكاني لعمله، كذلك إقدامه على خمسة آلاف سنة بكل ثقة. يبرر أيضًا غياب التاريخ ضرورةَ فهم الطبيعة المشروطة والعلائقية والسياقيّة للظاهرة، بالتالي ضرورة دراسة مراحل التطور والتغيّر الحاصل في جوهرها. لإيضاح ما نقصده نستشهد بفقرةٍ له من كتابه نحو نظرية أنثروبولوجية للقيمة “ماذا يفعل المرء حين تغيب سوق العمل، أو تكون هذه السوق بلا أهمية؟ أسيحدث الشيء نفسه [أي قياس القيمة بوقت العمل]؟ بمعنى، أيمكن تطبيق ماركس على المجتمعات السابقة على الرأسمالية؟ بالنسبة لباحثٍ أنثروبولوجي فهذا السؤال هو السؤال الأهم.” (ص56، التشديد لي). لا يخلو الكتاب موضوع المراجعة من هكذا أمثلة، لكن اخترنا هذا المثال بالذات لسببين، أولهما أنَّه يوضح الفكرة المقصودة بما لا يترك مجالًا للبس، ثانيهما أنَّه يدلِّل على إساءة فهم مزدوجة: 1) إساءة فهم لمنهجية ماركس؛ 2) إساءة [لا أقول عدم] فهم عند قراءة النصوص، فماركس قد أجاب على السؤال الأهم عند الباحث الأنثروبولوجي وفي الكتاب الذي كان يتحدث عنه الباحث الأنثروبولوجي! إليك الجواب على لسان ماركس: “كان المجتمع الإغريقي يقوم على عمل العبودية، وكان أساسه الطبيعي يستند إلى عدم المساواة بين الناس وتباين قوة عمل كل منهم. إنَّ سرّ التعبير عن القيمة، هو أنَّ كل أنواع العمل متساوية ومتعادلة لأنَّها عمل بشري عام وبقدر ما تظل عملًا بشريًا عامًا، يتعذر بلوغه ما لم تكن فكرة المساواة البشرية قد اكتسبت رسوخ فكرة شعبية مسبقة. وهذا غير ممكن إلّا في مجتمع تتخذ فيه الغالبية العظمى من منتوجات العمل شكل السلع، مجتمع تكون فيه العلاقة السائدة بين إنسان وآخر هي العلاقة بين مالكي سلع.” (رأس المال –م1، ص91-92، التشديد لي).
يمكن قول المزيد لكن نكتفي بهذا القدر بالنسبة لهذه النقطة وننتقل للنقطة التالية.
2- لا تحليل
يضطلع التحليل باختراق الظاهري والنفاذ إلى الجوهري، أي القبض على العام من الخاص. لا تغيب الاستنتاجات طبعًا عن عمل غريبر لكن التحليل نفسه لا يظهر كما يجب، إذْ يقتصر على المقاربة الظاهرية للممارسة. ترتبط هذه النقطة بالنقطة السابقة ولكنها بنفس الوقت ترتبط بأيديولوجيا المؤلف الأناركية إذْ يقول في كتابه شذراتُ أنثروبولوجيا أناركية: “لم تكن الأناركية مهتمةً بالمسائل الفلسفية أو الاستراتيجية التي هجس بها الماركسيون –أسئلة على شاكلة: هل الفلاحون طبقة ثورية؟ (ترى أنَّ الأناركية أنَّ ذلك أمر يعود للفلاحين أنفسهم لتقريره.) أو سؤال ما طبيعة الشكل السلعي؟ بل على العكس يناقش الأناركيون بين بعضهم الطريقة الديمقراطية الحقة لإدارة اجتماع، وعند أي نقطة تكف فيها المنظمة عن تمكين الحرية الفردية وتبدأ بالنيل منها؟” ثم يَخلُص في مقابلة الأناركية بالماركسية إلى أنَّ: “1) الماركسية تميل لتكون خطابًا نظريًا أو تحليليًا حول الاستراتيجية الثورية [هل يجب أنْ نفنّد هذه المغالطة؟]؛ 2) الأناركية تميل لتكون خطابًا أخلاقيًا حول الممارسة الثورية.” (شذرات، ص5-6). هذا من جهة أولى.
من جهةٍ ثانية، تقوم النظرية الاجتماعية الأناركية عند غريبر على افتراضَيْن اثنين: “1) أنَّ عالمًا آخر مختلفًا ممكنًا؛ 2) أنَّ على النظرية رفض الانقياد وراء الطليعية رفضًا واعيًا [بلسانٍ عربي مبين فالمقصود هو رفض فكرة شيوخ الطريقة].” (شذرات، ص10). دع عنك الافتراض الثاني، فهو صبياني. لنتناول الأول: إنَّ الالتزام عند غريبر بهذا الافتراض، هو “فعل إيماني فأنت ليس لديك معرفة يقينية بهذه الأمور [أي وجود عالم مثلًا بلا دولة ولا رأسمالية. والتشديد لي].” نلحظ أولًا أنَّ غريبر متفائل، فنظريته المقترحة تقوم على افتراض وجود عالم مختلف ممكن، لكن هل بالضرورة أنْ يكون هذا العالم المختلف الممكن عالمًا جيدًا؟ ليس بالضرورة، بل قد يكون عالم القتل على الهوية وأسواق الجواري والسبايا! تلتصق هذه الإرادوية والـwishful thinking بالافتراض الأول والثاني على السواء. نلحظ ثانيًا أنَّ هذا العالم الممكن يأتي بالافتراض، ويُغذّى بالإيمان، أي إنَّه ليس إلّا محض اعتباطية وتعسفٍ. في حين كان بالإمكان، كما أمكن للماركسية، تحليل الواقع الملموس والخبرة التاريخية للخلوص إليه كنتيجة علمية بدلًا من كونه افتراضًا تعسفيًا.
ترتبط النقطة هذه بالنقطة السابقة، فحضور التمرحل التاريخي يعني وجود حركة في المفاهيم، ينبغي الالتفات لها ودراستها. بيد أنَّ غياب التمرحل التاريخي للظواهر يجعل جوهر الظاهرة ثابتًا لا يتغيَّر مع تغيُّر الزمان والمكان بالتالي تكفي مشاهدة الممارسات المختلفة ومقارنتها بين بعضها البعض للخلوص إلى استنتاجات، أو ربما إلى اكتشافات غير متوقعة!
يسمح غياب الدرجة الكافية من التحليل لغريبر أنْ يطرح خلاصاته نيئة. كما يسمح له التخفف من التحليل والتاريخ، خاصةً مع غياب النطاق المكاني، بانتقاء الممارسات، ولكي لا نتجنى باتهام الانتقائية لِنَقُل أنَّها تسمح له بالتهوين من مسألة إغفاله لممارسات شعوب وقبائل كثيرة لم يصل إليها. منطقيًا ثمَّة حدَّان للوصول أولهما قدرة الباحث في إطار زمني معين على التهام المواد المتوفرة لديه، وهذا حدّ ذاتي؛ أما الحد الثاني فهو موضوعي يتمثل بوصول مواد عن الشعوب الماضية وممارساتها.
آخر ما نريد الإشارة إليه هنا، وأرجو ألَّا أكون قد أمللتُكم، أنَّ الخطاب الأخلاقي يحتل مكان التحليل؛ يوفِّر ذلك لغريبر ميدانًا للقتال لا داعي له أصلًا. فالمُثُل العليا ليست عُدَّة حرب، خاصة مع خصم لا يرحم كالتاريخ. إنَّ الخطاب الأخلاقي ليس بأي حال بديلًا عن التحليل العلمي، بل في واقع الحال تأتي الأحكام والإدانات الأخلاقية كتحصيل حاصل للتحليل. يمكن القول عند هذه النقطة أنَّ من تغنَّى بعدد صفحات هوامش الكتاب ومراجعه أنَّه وقع في سحر الكمية.
3- لا يعوَّل عليه
يحوي العالم المختلف الممكن –الذي يفترضه غريبر– في داخله ضمنيًا على القيم العليا والمبادئ الأولية التي تُفرَض، بالمثل، تعسفيًا على طول النصف الثاني من الكتاب حين تغدو الأخلاقيات رافعة المناقشة بشكل رئيسي. لا يهتم غريبر بسؤال لماذا؟ بل ينشغل بسؤال كيف؟ فالأول نظري والثاني عملي. واليد العليا عنده للعملي، للممارسة.
الممارسة عنده ممارسة فردية، ومع غياب الدرجة الكافية من التحليل والتاريخ يشكِّل التركيز على الممارسة الفردية نتيجة طبيعية. فهذا يسمح له بتجاهل علاقات القوى والأبنية الاجتماعية والاقتصار على الجزئي/الفردي، علاقة فرد-فرد، هذا بدوره يعفيه من التناول الطبقي. يعي ماركس هذه الانتقالة في التحليل إذْ ما يمكن استخلاصه على المستوى الفردي ليس بالضرورة أنْ يصح على مستوى العلاقات الطبقية: “صحيح، أنَّ الأمور تلوح في صورة أخرى تمامًا فيما لو نظرنا إلى الإنتاج الرأسمالي في مجرى تجدده المستمر، ولو نظرنا، لا إلى الرأسمالي المفرد والعامل المفرد، بل إلى الوضع بشموليته، إلى الطبقة الرأسمالية مقابل الطبقة العاملة. ولكن القيام بذلك يعني تطبيق معايير غريبة كليًا عن الإنتاج السلعي.” (رأس المال –م1، ص723). غياب الطبقي يعني غياب السياسي، وغياب السياسي يعني غياب نقض الوضع القائم، من المعلوم إلى أين يصل هذا الكلام… إلى ما تقوله النقطة 3.
خاتمة: حتى لا ترجح كفة على كفة
قد تقول عزيزي القارئ: إنَّ هذه المراجعة متحاملة وحادة. أُجيبك بالنفي، لسببين: 1) يُقدَّم الكتاب على أنَّه تاريخ للدَّيْن ومحطم للأساطير وحاوٍ على اكتشافات عديدة غير متوقعة، وغير ذلك من تعليقات مشابهة ساقها المؤلِّف. 2) يُستخدَم الكتاب ضمن الجدل السياسي حيث يقف موقفًا أيديولوجيًا –لا عيب في ذلك– ومن الطبيعي أنْ يُرَد عليه من موقف أيديولوجي مغاير. لئن اختلفنا مع غريبر وخصصنا هذه المادة لمراجعة ما كتب وانتقاده فذلك لأنَّنا نرى في جهوده ومساعيه شيئًا لافتًا وجهدًا لا ينبغي أنْ يضيع، فكما ورد في غير محل من هذه المراجعة أنَّ الأنثروبولوجيا تحبو باحثيها بميزة كبرى لو جمعَ معها الباحث المنهج العلمي -بألف ولام التعريف- ستكون نتاجاته جد عظيمة. كان يمكن لو وُضِع الكتاب في إطاره الطبيعي، أي بوضعه ككتاب أنثروبولوجي يوثِّق ممارسات الدَّيْن عند المجتمعات والحضارات المختلفة، أنْ تكون الحِدَّة أقل، إذْ سيؤدي عندها دوره الطبيعي كمصدر لتملّك مشاهدات متعددة تُغني، بعد تقليبها ودراستها علميًا، فكر الباحث بالإمكانيات والبدائل الممكنة فعلًا، ولا شك أنَّه في هذا الإطار أجدى لنا. لكنّ قراءة الكتاب تبقى تُشكّل إضافة مُفيدة للقارئ الذي ينشدُ تحليلاً تتراكب فيه البُنى الأنتربولوجية مع الاقتصاد.
___________________
كاميرا المُتَلَمِّس
احتشدت جموع من الشبان والأساتذة الكبار في قاعة جامعة سفيردلوف، ثمَّة شخصٌ تلتصق به العيون. يقف هذا الشخص بثيابه المهندمة. معه مجموعة من الأوراق والكراسات. إنَّه على وشك إلقاء محاضرة. يتقدم من المنصة ينظر في الحضور، يسود الصمت. الجميع جاهز. ويبدأ بالكلام. وفي معرض ما قاله نقتبس منه ما يُلخِّص مآخذنا وملاحظاتنا على عمل غريبر (عمله هذا وغيره)، ورؤيتنا لمقاربة هذه الظواهر منهجيًا:
«لكيما نتناول هذه المسألة [أي مسألة كانت] بالشكل الأقرب إلى العلم، ينبغي أنْ نلقي على التاريخ ولو نظرة سريعة لنرى كيف انبثقت…وكيف تطورت. إنَّ الطريقة المأمونة عند مواجهة أية مسألة من مسائل العلم الاجتماعي، الطريقة التي لا يستغني عنها المرء إذا كان يريد أنْ يكتسب حقًا مَلَكة تناول المسائل بالشكل الصحيح وإذا كان لا يريد التوهان في الجزئيات الكثيرة أو بين الكثرة الهائلة من الآراء المتناضلة –إنَّ الأمر الأهم لتناول هذه المسألة من وجهة النظر العلمية– هو عدم نسيان الصلة التاريخية الأساسية، والنظر إلى كل مسألة من وجهة النظر التالية: كيف نشأت تاريخيًا هذه الظاهرة المعنية، وما هي المراحل الرئيسية التي اجتازتها هذه الظاهرة في تطورها، وما آلت إليه في الوقت الحاضر نتيجةً لتطورها هذا…إنَّ كل مسألة من هذه المسائل لا يمكن لنا تناولها برصانة وثقة إلا إذا ألقينا نظرة على تاريخ تطورها بأكمله.»
اليوم هو 11 يوليو 1919، انتقلت بكم كاميرا المُتَلَمِّس إلى استديوهاتنا في جامعة سفيردلوف ونقلت لكم مشهدًا من محاضرة الرفيق فلاديمير لينين عن الدولة.